ولم أر في عيوب (الدعاة) عيبا
أنَّ الدُّعاة إلى الله لهم فضل علينا، ومَن أدركَ المخاطر التي تُحيط بالأمَّة وتابَعَ صرخات الدُّعاة ووسائل علاجهم ذات مَحدودية النِّطاق، وعَرَف أنَّهم لا يسألون النَّاس أجرًا، أدركَ فَضلهم، واعتَرَفَ بحقِّهم، وهذا أحد الأسباب التي تجعلنا نَتَفَقَّد عيوبهم؛ كما هو منطوق البيت الأدبي المُحَرَّف.
ولم أر في عيوب (الدعاة) عيبًا ♦♦♦ كنقص القادرين على التَّمام
الحمد لله، وصلَّى الله وسَلم على رسول الله، وبعدُ:
وَلَمْ أَرَ فِي عُيُوبِ (الدُّعَاةِ) عَيْبًا ♦♦♦ كَنَقْصِ القَادِرينَ عَلَى التَّمَامِ
بيت المتنبي واحد مِن أبيات مشهورة ترجع شهرتها في المقام الأول لصدق معناها، وقد حَرَّفْتُ فيه قليلاً، حيثُ استَبْدَلتُ (الدُّعاة) بـ(النَّاس) الذين هم فرد من أفراد اللَّفظ العام، فالخطب فيه لين.
والبيتُ بعد تحريفي له يدلُّ على أمور:
أوَّلاً: أنَّ الدُّعاة إلى الله لهم فضل علينا، ومَن أدركَ المخاطر التي تُحيط بالأمَّة وتابَعَ صرخات الدُّعاة ووسائل علاجهم ذات مَحدودية النِّطاق، وعَرَف أنَّهم لا يسألون النَّاس أجرًا، أدركَ فَضلهم، واعتَرَفَ بحقِّهم، وهذا أحد الأسباب التي تجعلنا نَتَفَقَّد عيوبهم؛ كما هو منطوق البيت الأدبي المُحَرَّف.
ثانيًا: دَلَّ البيت المُحَرَّف على أنَّ للدَّاعية عيوبًا، فالفتور عيبٌ، وضعف الهم الدَّعوي عيبٌ، والتَّهَرُّب منَ المسؤوليَّة الدَّعويَّة عيبٌ، إلاَّ أنَّ أعلى مراتب العيوب أن يكونَ الدَّاعيةُ قادرًا على الإبداع الدَّعوي، وتوسيع النِّطاق النَّفعي، وتعميم الخطاب اللَّفظي، والجمع بين المُتَشابهات منَ المجالات الدَّعويَّة، وضبط المختلف منها، ومع ذلك لا يصل بنفسه لهذه المرتبة التي هي له، راضيًا بمحدوديَّة العمل، وضيق النِّطاق، بحيثُ إنَّ عملَه الدَّعوي يتناسب طرديًّا مع ما لديه من قدرات تزداد مع الأيَّام.
وَصَدَقَ المتنبي قبل تحريف البيت وبعده.
ثالثًا: إنَّ صِدق البيت الشِّعري يُمكن من وجهة نظري في أنَّه جعل الإنسان القادر على التَّمام حكمًا على نفسه، فهو يُخَاطب معرفته بنفسه وإدراكه لقدراتها، فيجعل تركه للكمال عيبًا يجب التَّنَزُّه عنه، ولا يدرك ذلك النَّقص إلاَّ القادر على التَّمام (الكمال الدَّعوي)، فإنَّ النَّاس غالبًا يقدِّرون للدَّاعية عمله، ويُكبرون نشاطه الدَّعوي، بينما يدرك هو أنَّ ما يقوم به لا يعتبرًا شيئًا أمام حقيقة قدراته وطاقته، وهذه من صفات أهل الكمال، فحين ينشغل غيرهم - ممَّن يعيش أدنى الكمال - بعبارات الثناء التي يسمعونها ويعتبرون صمودهم أمامها نوعًا منَ المُجَاهَدة النَّفسيَّة، تجد أهل الكمال ينشغلون في لوم أنفسهم على تَرْك الكمال (التَّمام)، وهكذا لا تجد أنفسهم إلاَّ لَوَّامَة، وهو ما قَصَدَهُ الحسن البصري - رحمَه الله - في تفسيره لقوله تعالى: { وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2].
رابعًا: في قراءتي التَّحليليَّة للبيت أجدُ المتنبي ذَكَرَ علاجًا لظاهرة الدُّعاة أو النَّاس القادرين على الكمال؛ لكنَّهم لم يفعلوا، وهذا العلاج هو:
1- أن يدركوا أنَّ فعلَهم هذا عيبٌ، وهو ما يسمَّى إدراك حقيقة الشيء، والنَّظر لمعناه وليس إلى مبناه، فنَظَر المتنبي إلى قدرة القادرين على الكمال منَ الناس (الدُّعاة)، فوجَدَ قدرتهم أقل بكثير من قدراتهم، بينما نَظَرَ النَّاس إلى قدرة الدُّعاة من خلال نتاجهم فشَغَلَهُم ذلكَ عن سؤال مهم: ألاَ يمكن لهذا الدَّاعية أن يكونَ أكثر فاعليَّة ممَّا هو الآن؟
واكتفى المتنبي بعلاج واحد، وسأكمل العلاج من وجهة نظري؛ كالتالي:
2- تقسيم المشاريع والخطط إلى نوعين:
أحدهما إقليمي: فيما يَتَعَلَّق بمنطقته ودائرته الصُّغرى، فهم إليه أحوج وبه أوثق، وهو بهم ألصق، وذلك داخل تحت قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214].
والثاني مناطقي: وهو الذي يَتَعَلَّق بالدَّائرة الأوسع، ولئن كان ذلكَ في أيام ماضية يحتاج إلى قدرات خارقة؛ فإنَّ التَّطَوُّر الإعلامي ووسائل الاتصال جَعَلَتْه في حدود المُمكن.
ولا غرابةَ في هذا التَّقسيم، فنحن نَتَكَلَّم عن قادرين على التَّمام.
3- أن ينتقل الدَّاعية القادر على التَّمام إلى ثلاث مستويات:
المستوى الأول: تنفيذ المشاريع فينزل إلى الميدان عاملاً مع زملائه.
المستوى الثاني: إنشاء مشاريع جديدة فيعمل على افتتاح مشاريع كثر، مُكتَفيًا بالفكرة والبدء دون التَّنفيذ والمُتَابَعة.
المستوى الثالث: التَّوجيه والاستشارة.
وفي تقديري أنَّ المستويات الثلاثة مرتبطة وذات أهمية، وبالنِّسبة للدُّعاة القادرين على التَّمام يعتبر المستوى الثالث أهمَّها، فمن خلاله يَتَوَجَّب عليهِم بُعد النَّظر، وسَعة الاطّلاع، وتوسيع التجربة، وامتداد العلاقات، ولا يَتَأَتَّى ذلكَ إلاَّ من خلال المرحلة المناطقيَّة.
4- مسابقة الزَّمن في تَحصيل أكبر قدر مُمكن منَ التَّوَسُّع، فإنَّ ظروف المرحلة الحالية صعبة، حتى إنَّها أصبحت غيْر خاضعة للدِّراسات والتَّوَقُّعات، مِمَّا يَجعلُنا بِحاجةٍ إلى فنّ (توقُّع غير المُمْكِن)، فإنَّ المشكلة الأساسيَّة عند القادرين على التَّمام منَ الدُّعاة وغيرهم أنَّ لديهم شعورًا بقدرتهم على فعل ما يريدونه في الوقت الذي يقدرونه، وهذا ناتج عن معرفتهم لقدراتهم؛ لكن لا بدَّ أن يدركوا أنَّنا في آخِر الزَّمن، والآخريَّة هنا نسبيَّة طبعًا، والفِتَن تزداد، والأيام حبلى، وأمر الله كلمح البصر أو هو أقرب.
5- بقي علاج من وجهة نظري لا يَتَعَلَّق بالدعاة القادرين على التمام، وإنَّما بمَن حولهم ممَّن لديْهم القدرة على اكتشاف الدُّعاة القادرين على التَّمام، كما فَعَل المتنبي مع النَّاس القادرين على التمام، وانتَقَدَ فعلهم بأنه عيب، فعلى زملاء الدُّعاة القادرين على التَّمام تهيئة الأجواء، واكتشاف قدرات الدُّعاة، وتوظيفها، وهذا داخل في قوله - صَلَّى الله عليه وسَلَّم: {الدَّال على الخير له مثل أجر فاعله}.
أخيرًا: أعتذرُ للمتنبي عن تحريفي لبيته، مع أني لم أزد على أن خَصَّصت عامّه، وفي تقديري أنَّ تخصيص العام أهون من تعميم الخاص.
♦ الكاتب: عقيل بن سالم الشمري
- التصنيف:
- المصدر: