فرعون يتحدث

منذ 2011-04-29

ينهض من تابوته بعد آلاف السنين، يظن أن العالم قد ساده العدل وأن قصته كانت آية وعبرة لكل الحكام الذين جاءوا من بعده، ولكنه يرى طغاة جدد يسومون شعوبهم سوء العذاب، يستعلون في الأرض ويستكبرون..



ينهض من تابوته بعد آلاف السنين، يظن أن العالم قد ساده العدل وأن قصته كانت آية وعبرة لكل الحكام الذين جاءوا من بعده، ولكنه يرى طغاة جدد يسومون شعوبهم سوء العذاب، يستعلون في الأرض ويستكبرون، يظنون أنهم امتلكوا البلاد والعباد.

يتعجب فرعون ويخرج عن صمته متسائلا: "بعد كل هذه القرون لم تنتبهوا ولم تتعظوا، لم يلتفت أيكم إلى قصتي ونهايتي أيكم بلغ ما بلغته من قوة وطغيان وجبروت وسطوة حتى أنني قلت للناس: ( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) [ النازعات: من الآية 24] كنت أظن أنني قادر على أن أحيي وأميت، جعلت من نفسي إلها ومن شعبي عبيدا وها أنا ذا قابع داخل تابوت ألتزم الصمت بعد أن جعل الله مني آية لمن يأتون بعدي ولكن كثير من الناس عن آيات ربهم غافلون".


يرتعد وينتفض، يسمع هديرا قويا يظنه صوت ذاك البحر الذي ابتلعه وجنوده بعد أن انشق ليمر منه موسى يتذكر هذه اللحظات حين ظن أن بينه وبين موسى طرفة عين وأنه وجنوده سيمرون من البحر المنشق ليقضوا على دعوة الحق، فإذا به يرى الهول حين يلتئم البحر مرة أخرى ليطبق عليه حينها لم يجد له عاصما من الطوفان، لم يشفع له إيمانه وإدراكه المتأخر للحق ولم تنقذه توبته المزعومة من الغرق وهو يرى الموت يحيط به من كل اتجاه.

يتساءل عن مصدر هذا الصوت الذي أفزعه فيدرك أنه صوت الملايين الذين خرجوا ليطالبوا بحقوقهم بعد طول قهر، وصمت، وفساد صوت الثوار في التحرير، ومن قبله في تونس الذي خرج كالطوفان ثائرا في وجه الظلم، ينظر فيرى عروشا تهوى وحكاما يسقطون.


يود فرعون أن يصل صوته إلى كل الطغاة، والظالمين يقول لهم: "ظللتم سنوات طويلة في طغيانكم تعمهون واستعان كل منكم بألف هامان من المستشارين وبطانة السوء الذين زينوا لكم سوء أعمالكم وعزلوكم عن شعوبكم في بروج مشيدة، فتخيل كل منكم أنه لن يدركه الموت وظننتم أن مانعتكم حصونكم من أن تصل إليكم أيادي المقهورين، اعتقدتم أن سياساتكم ،وسجونكم، ومعتقلاتكم، ورصاصكم قادرة على قتل الحريات، وأن تمنحكم شعوبا خاضعة مستكينة.

لم تدركوا أن طوفان الغضب قد يثور في لحظة، وبين ليلة وضحاها فتتبدل الأحوال، وتعلو كلمة الحق والعدل، وحينها لن تجدوا ما يعصمكم من الطوفان.

يلتفت ليوجه حديثه إلى الرئيس مبارك قائلا: "أعرف أنك مندهش، ومصدوم لم تكن تتخيل يوما أن تخرج كل هذه الملايين يوما كالأمواج الهادرة لتطالب برحيلك، وتتساءل: ألم أوفر الأمن والأمان لمصر، وشعبها طوال ثلاثين عاما؟، ألم أحارب من أجل تراب هذا الوطن؟، وكيف انفجر بركان الغضب فجأة لأستيقظ على هذا الكابوس المرعب الذي لم أتخيله يوما؟، ولماذا لم يتوقف طوفان الغضب، ويصر الشعب على رحيلي حتى بعد كل ما قدمته من تنازلات حاولت من خلالها الاستجابة لمطالب الإصلاح ومقاومة الفساد؟.


يكمل فرعون قائلا: "الإجابة على تساؤلاتك ستعرفها إذا تأملت ما فعله كل "هامان" استعنت به في حكمك فحرص على أن يجعل من نفسه حاجزا بينك، وبين شعبك الذي استحل حقوقه مئات الهامانات الذين صوروا لك أن صمت هذا الشعب المقهور يعنى أنه راض عنك، وعن حكمك، وأنه لن يرضى برئيس غيرك، وأن الأصوات التي تصرخ مطالبة بالعدل، والإصلاح ما هي إلا قلة قليلة مندسة بين الجماهير".

أتذكر هامان عهدي، وكيف تفوق عليه هامانات عهدك الذين أفقدوا الناس الثقة في كل وعد وكلمة يقولها النظام والرئيس.

"هاماني" المسكين كان واحدا وحيدا يفعل ما أمره به بينما هامانات عهدك بالمئات زينوا سوء الأعمال، وطغوا في البلاد، وأكثروا فيها الفساد، وقمعوا الشعب، وأكلوا أمواله بينهم بالباطل فكانت النتيجة انفجار هذا البركان، وانطلاق الطوفان الذي لن يسمع عذرا، ولن يسامح في حق تأخر، ولن يقبل توبة من يوشك على الغرق، هكذا فعل الشعب من قبل مع زين العابدين بن علي في تونس الذي ذكرني بنفسي حين عاندت واستكبرت ولم أعرف الحق إلا عندما أوشكت وجنودي على الغرق فجاءتني كلمات ربى ( آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس: 91].


يستطرد فرعون قائلا: "تذكرت هذه اللحظة المرعبة وأنا أرى بن علي يقف أمام شعبه، بعد أن اشتعلت نيران الثورة في تونس، وأدرك أن جنوده، وحلفاءه، وطلقات نيرانه لن تستطيع حمايته، وأن الطوفان يوشك أن يطيح به حينها فقط أدرك حقوق شعبه، وأعلن بعد فوات الأوان أنه فهمه، وأنه آمن بالتغيير، وبالحرية، والديمقراطية، ولكن كانت فرصة التوبة، والتكفير عن الأخطاء، والخطايا قد تبددت حتى بعد إعلانه أن "هاماناته" قد خدعوه، وقدموا له معلومات مغلوطة, كل منا لم يعرف الحق إلا حين أوشك على الغرق وكثير من الطغاة والمفسدين لن يعرفوه إلا حين يمرون بما مررنا به".

يقول فرعون "ها أنا ذا حبيس في تابوت لا أستطيع الحركة بعد أن كنت أظن أنني أمتلك الدنيا، وزينتها، ومن عليها، وها هو زين العابدين الذي كان يستبد، ويظلم شعبه معزول، وممنوع من الحديث حبيس مثلي في تابوت حتى، وان كان هذا التابوت قصر في جدة.


سمعت كلمات ربي بعد هول ما رأيت يوم الغرق تأتيني في قوله تعالى: ( فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) [يونس: 92]، فكان غرقي وبقاء جسدي آية، ولكن أكثر الطغاة غفلوا عنها واستكبروا استكبارا، كذلك نجا زين العابدين ببدنه، ولم يتمكن شعبه المقهور من قتله، ولكن لم ينتبه سائر الطغاة والظالمين لهذه الآيات، فها قد زالت سطوته، وأصبح مطرودا مطاردا ضعيفا بعد قوة ذليلا بعد عز، انصرفت عنه حاشيته وبطانته، وتبرأ منه كل حلفاءه ليصبح منبوذا مرفوضا، ضاقت عليه الأرض بما رحبت، ولم تغن عنه أمواله، ظل لساعات طويلة يبحث عن مكان يأويه، وحين وجده كان عليه أن يقبل كل الشروط، أن يصمت ولا يتحدث بعد أن كان يتكلم، ولا يسمع إلا ما يحلو له من كلمات النفاق والزيف التي تزين له سوء عمله.

كلانا أصبح بعد قوة لا حول له ولا قوة، كلانا محبوس داخل تابوت حتى وإن كان هذا التابوت قصرا، كلانا كان ينبغي أن يكون عبرة وآية لأمثالنا، ولكن يبدو أن أكثر الطغاة لا يدركون الحق إلا حين يقبعون مثلنا داخل تابوت.


الخميس، 10 فبراير 2011 م
 

المصدر: زينب عبد اللاه
  • 1
  • 0
  • 2,382

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً