الأعاظم (1) أعظم استثمار
سلسلة "الأعاظم" هي وقفات إيمانية وخواطر تربوية ونظرة دقيقة حقيقية؛ لتزكية النفس وتهذيبها، وتطهير القلب وطمأنينته، وانشراح الصدر وراحته، من خلال تصويب البوصلة وتعديل الاتجاه ووضوح الهدف، والارتقاء في تفكير المسلم من النظرة المادية المحضة والتركيز على عوائد مؤقتة زائلة، إلى نظرة شرعية تأصيلية تؤثر الباقية على الفانية، والعائد الأخروي الدائم على الدنيوي المنقطع.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن الهمم العالية مطلب يتمناه أصحاب النفوس الكبيرة، التي تتوق للمعالي، للوصول إلى أعاظم الأمور، بما يعود عليها من نفع كبير وخير وفير، تؤهلها لنيل الدرجات العُلى والمنازل العُظمى في الفردوس الأعلى، فمن جد وجد ومن زرع حصد، ومن سار على الدرب وصل، ومن سعى جنى، ومن طلب العُلى سهر الليالي.
وإذا كانَتِ النّفُوسُ كِباراً تَعِبَتْ في مُرادِها الأجْسامُ
سلسلة "الأعاظم" هي وقفات إيمانية وخواطر تربوية ونظرة دقيقة حقيقية؛ لتزكية النفس وتهذيبها، وتطهير القلب وطمأنينته، وانشراح الصدر وراحته، من خلال تصويب البوصلة وتعديل الاتجاه ووضوح الهدف، والارتقاء في تفكير المسلم من النظرة المادية المحضة والتركيز على عوائد مؤقتة زائلة، إلى نظرة شرعية تأصيلية تؤثر الباقية على الفانية، والعائد الأخروي الدائم على الدنيوي المنقطع.
جُبلت النفوس على حب العوائد والأرباح القريبة السريعة المحسوسة حتى لو كانت قليلة، {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ. وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} [1]، لذلك فحديث الناس عن الاستثمار يتركز على المشاريع والأعمال التي تجلب لهم أفضل عوائد وأرباح.
الناس بطبيعتهم يحبون ما فيه عائد مادي، فيطلبون وظيفة راقية وحوافز عالية، وتجارة رابحة، ومشروع فيه عوائد طائلة، وهذا غير مذموم إذا ضُبط!
لفظ الاستثمار يكاد يطغى على مجريات حياة الناس اليومية بشكل واضح وملموس، بسبب التعلق المادي الزائد والتطور والانفتاح الكبير والعولمة، وكثرة الأبواب والمجالات وتعقيدات الحياة، حتى وصل الحال شيئا فشيئا إلى التعلق المذموم والعبودية، فصار غاية لا وسيلة!
يقول عليه الصلاة والسلام: «تعِس عبدُ الدِّينارِ، والدِّرهمِ، والقَطيفةِ، والخَمْيصةِ، إن أُعطِي رضي، وإن لم يُعْطَ لم يرْضَ».[2]
لكن الكَيِّس الفطن والعاقل اللبيب والذكي الحصيف؛ الذي يبحث عن أمثل استثمار وأعظم عوائد بمقياس أولي الهمم العالية والنفوس الزاكية، لأن الاستثمار الذي هو الزيادة والنماء في استغلال الطاقات والامكانيات المتاحة وتوظيفها التوظيف الأمثل لتحصيل أعظم مردود وعائد، هو وسيلة وليس غاية فلينتبه!
قبل الحديث عن أعظم استثمار لابد من تثبيت حقيقة مهمة جدا، هي أن وجود الإنسان في الدنيا مؤقت وأنها دار ممر ومزرعة للآخرة، وهذه قضية ثابتة راسخة لدى الأنبياء وأتباعهم، قال تعالى عن مؤمن آل فرعون {يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [3].
وقد ضبط لنا عليه الصلاة والسلام حقيقة علاقتنا بالدنيا في وصيته لابن عمر – رضي الله عنهما- إذ قال له: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ»، وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيـْتَ فلا تَنْتَظِرِ الصَّباحَ، وإذا أَصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرِ المساءَ، وخُذْ مِن صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، ومِنْ حياتِكَ لِمَوْتِكَ.[4]
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إِنَّ الدُّنْيَا قَدِ ارْتَحَلَتْ مُدْبِرَةً، وَالْآخِرَةُ مُقْبِلَةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابٌ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلٌ.[5]
وقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: عَجِبْتُ مِمَّنِ الدُّنْيَا مُوَلِّيَةٌ عَنْهُ، وَالْآخِرَةُ مُقْبِلَةٌ إِلَيْهِ يَشْغَلُ بِالْمُدْبِرَةِ، وَيُعْرِضُ عَنِ الْمُقْبِلَةِ.[6]
لقد بين الله سبحانه وتعالى أتم بيان وأوضحه بآية قرآنية محكمة، العلاقة بين المسلم والدار الآخرة والدنيا، وكيفية التعاطي والتعامل بميزان دقيق مع المال الذي اكتسبه، قال تعالى {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [7].
لو أن إنسانا جاء ليقيم في دولة من الدول لمدة شهر واحد فقط، ولديه أموال فهل من المنطق والعقل أن يستثمر ويبني المنازل والعقارات بكل ماله في هذه البلدة وهو متيقن أنه راحل؟!! الجواب واضح.
بشكل عام فإن الاستثمار الحقيقي النافع المثمر في حياة المسلم، مجالاته متعددة من اغتنمها فقد غَنِم، وضحها عليه الصلاة والسلام بقوله: اغتنِم خمسًا قبل خمس: شبابَك قبل هَرمكِ، وصحتَك قبل سقمِك، وغناك قبل فقرِك، وفراغَك قبلشغلِك، وحياتَك قبلَ موتِكَ.[8]
إن أعظم استثمار للمسلم في الحياة الدنيا، ما يضمن له أرباح مستمرة وعوائد دائمة وأجور غير منقطعة بعد موته، مع صعوبة ذلك لكن المتأمل لللآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة وقصص وسير الكبار والعظماء من القدوات والرموز؛ يجد أن الاستثمار الذكي والأمثل والأعظم لا يخرج عن مجالات ثلاثة، ذكرها عليه الصلاة والسلام بقوله: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ».[9]
قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [10]، فكل خير عمل به أحد من الناس، بسبب علم العبد وتعليمه ونصحه، أو أمره بالمعروف، أو نهيه عن المنكر، أو علم أودعه عند المتعلمين، أو في كتب ينتفع بها في حياته وبعد موته، أو عمل خيرا، من صلاة أو زكاة أو صدقة أو إحسان، فاقتدى به غيره، أو عمل مسجدا، أو محلا من المحال التي يرتفق بها الناس، وما أشبه ذلك، فإنها من آثاره التي تكتب له، وكذلك عمل الشر.[11]
وتوكيدا لهذا المعنى قال عليه الصلاة والسلام: «سبعٌ يَجري للعبدِ أجرُهُنَّ، وهوَ في قَبرِه بعدَ موتِه: مَن علَّمَ علمًا، أو أجرَى نهرًا، أو حفَر بِئرًا، أوغرَسَ نخلًا، أو بنَى مسجِدًا، أو ورَّثَ مُصحفًا، أو ترَكَ ولدًا يستغفِرُ لهُ بعد موتِه» .[12]
وقال عليه الصلاة والسلام: «مَن علَّمَ عِلمًا فلَه أجرُ من عَمِلَ بِه لا ينقُصُ من أجْرِ العامِلِ».[13]
وقد بين عليه الصلاة والسلام أن أعظم استثمار في الذرية الصالحة إذ يقول: «إنَّ الرَّجلَ لتُرفَعُ درجتُه في الجنةِ فيقولُ: أنَّى هذا؟ فيقالُ: باستغفارِ ولدِك لكَ».[14]
مما مضى يتلخص لدينا أن مجالات أعظم استثمار للعبد في الدنيا ثلاثة:
1- الصدقات الجارية التي يبقى أجرها بعد الممات طالما ينتفع منها.
2- العلم النافع الذي يصل أجره لصاحبه طالما ينتفع منه الناس بعد موته.
3- الولد الصالح الذي يدعو ويستغفر لوالده بعد موته.
قد يقول قائل: أن أصحاب الأموال الذين يتمكنون من وقف الأوقاف وترك الصدقات الجارية أعدادهم قليلة، وكذلك العلماء الذين يُخلفون علوما يُنتفع منها، لذلك فإن أعظم وأسهل وأمثل استثمار لعامة الناس هو في الذرية الصالحة.
من دعاء عباد الله الصالحين الذين هم أعظم المستثمرين {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا )[15]، فَإِنَّهَا جَامِعَةٌ لِلْكَمَالِ فِي الدِّينِ وَاسْتِقَامَةِ الْأَحْوَالِ فِي الْحَيَاةِ إِذْ لَا تَقَرُّ عُيُونُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا بِأَزْوَاجٍ وَأَبْنَاءٍ مُؤْمِنِينَ}.[16]
خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام خير البشر بعد نبينا عليه الصلاة والسلام، أدرك هذه الحقيقة وطلب الذرية الصالحة عندما هاجر إلى فلسطين {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ. فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [17].
كذلك زكريا عليه السلام لما تقدم به العمر طلب الذرية الصالحة {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [18]، وفي موضع آخر قال تعالى على لسان زكريا {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا. يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [19].
المتأمل في سير ومواقف وأحوال السلف الصالح، يجد العجب العجاب في اعتنائهم بأعظم استثمار وعنايتهم الفائقة بصلاح الذرية، فقد روى الإمام أحمد بمسنده عن وكيع قال: قالت أم سفيان لسفيان: يا بني: اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي!
فسفيان الثوري فقيه العرب ومحدثهم وأمير المؤمنين بالحديث الإمام الجليل، هو ثمرة من ثمرات أم صالحة حفظ لنا التاريخ مآثرها وفضائلها ومكانتها، ومن طرق التحفيز للحفاظ على هذا الاستثمار كانت تقول لسفيان: يا بني إن كتبت عشرة أحرفٍ فانظر هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك، فإن لم تر ذلك فاعلم أنها تضرك ولا تنفعك.
ومن عجائب ما يروى في ذلك، يقول المحدث الإمام هشام بن عمار رحمه الله: "باع أبي بيتا له بعشرين دينارا وجهزني للحج، فلما صرت إلى المدينة أتيت مجلس مالك ومعي مسائل أريد أن أسأله عنها، فأتيته وهو جالس في هيئة الملوك، وغلمان قيام، والناس يسألونه، وهو يجيبهم، فلما انقضى المجلس قلت له: حدثني. فقال: اقرأ. فقلت: لا، بل حدثني. فقال: اقرأ. فلما أكثرت عليه، قال: يا غلام، تعال اذهب بهذا، فاضربه خمسة عشر، فذهب بي فضربني خمس عشرة درة فبكيت، فقال لي: ما يبكيك؟ أوجعتك هذه الدرة؟ قلت: إن أبي باع منزله، ووجه بي إليك كي أتشرف بك، وبالسماع منك، فضربتني بغير جرم، ولا أجعلك في حل! فقال مالك: فما كفارته؟ قلت: كفارته أن تحدثني بخمسة عشر حديثا، قال: فحدثني بخمسة عشر حديثا، فقلت له: زد من الضرب، وزد في الحديث، فضحك مالك وقال: اذهب".[20]
أما أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر الذي ولي الأندلس، وافتتح سبعين حصنا في غزوة واحدة، وتغلغل في أحشاء سويسرا، وضم أطراف إيطاليا، وأمعن في قلب فرنسا، ما هو إلا ثمرة من ثمرات أمه التي ربته يتيما بعد أن قتل عمُّه أباه، فكان له ما كان!
والقصص في ذلك والمواقف كثيرة لا يمكن حصرها، لكن حسبنا إشارات وتنبيهات لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وأيقن أن أعظم استثمار يرجع عليه بالأرباح الطائلة والأجور الدائمة في حياته وبعد مماته، هي الذرية الصالحة.
نسأل الله أن يقر أعيننا بذرياتنا، وأن يكتب لنا أجر صلاحهم وتقواهم، ويوفقهم للاستقامة والهداية ويتقبل استغفارهم ويرفع بهم درجاتنا في الجنة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] (القيامة:20-21).
[2] رواه البخاري.
[3] (غافر:39).
[4] رواه البخاري.
[5] الزهد لابن المبارك ص86.
[6] جامع العلوم والحكم (2/378).
[7] (القصص:77).
[8] صحيح الجامع برقم 1077.
[9] رواه مسلم.
[10] (يس:12).
[11] تفسير السعدي ص692.
[12] صحيح الجامع برقم 3602.
[13] صحيح سنن ابن ماجه برقم 198.
[14] صحيح الجامع برقم 1617.
[15] (الفرقان:74).
[16] تفسير ابن عاشور (19/81).
[17] (الصافات:100-101).
[18] (آل عمران:38).
[19] (مريم:5-6).
[20] سير أعلام النبلاء بتصرف (11/429).
أيمن الشعبان
داعية إسلامي، ومدير جمعية بيت المقدس، وخطيب واعظ في إدارة الأوقاف السنية بمملكة البحرين.
- التصنيف: