نحو نهضة أمة
يضيق الكثير أن يتعداهم أحد.. لهم مستوى فيقفون حاجزا وحائلا لئلا يتخطاهم آخرون، بينما طبيعة الحياة أن الأقدار تتفاوت رغم أنف الجميع، شاؤوا أم أبوا.
هل يصح أن تقول أنا السقف فلا يكبر أحد؟
حالة تمس غالب النفوس البشرية، خاصة الضعيفة..
إذا وصل إنسان الى حالٍ، جعل نفسه سقفا لغيره لا يسمح لأحد أن يتعداه!
يضيق الكثير أن يتعداهم أحد.. لهم مستوى فيقفون حاجزا وحائلا لئلا يتخطاهم آخرون، بينما طبيعة الحياة أن الأقدار تتفاوت رغم أنف الجميع، شاؤوا أم أبوا.. فإذا بالكثير يقف بين حالين: محاولة عدم تخطي الآخرين لحاجزهم وسقفهم، ولا بد أن ينهار الحاجز ويعجزوا عن إيقاف الحياة؛ فإن مرّوا حنقوا وأبغضوهم وقد يعادوهم ويحاولون عرقلتهم.. ثم قد يناصبونهم العداء والحروب فقط لرؤيتهم يسقطون!
تلك شخصيات ونفسيات جاهلة معذَبة، ومؤذية.. لكنها كثيرة..
بل وما من نفس الا وفيها من هذا شيء، قَل عند هذا أو صغر عند آخر، قاومه صادق فجعل مكانه حب الخير للجميع، أو استسلم له آخر فعاش منغَصا ومنغِصا.
في مجال الحياة، والدين والأسرة وغيرها نجد هؤلاء، (بل نجد أنفسنا هؤلاء!)
في مجال الدين.. صاحب الصوت الندي في قراءة القرآن يضيق أن يأتي من هو أندى صوتا أو أكثر ذيوعا، والعالِم يضيق أن يتخطاه آخر في العلم أو الفهم! أو الشهرة أو كثرة الأتباع.. أو المناصب، وقديما كان المربون المتصوفة (المستقيمون على السنة) قد يحدث منهم مثل ذلك غيرة من كثرة الأتباع..
في الدنيا يضيق صاحب شقة أن ينال غيره أحسن منها، ويضيق صاحب الولد الصالح! أن يتفوق أبناء غيره على أبنائه، ويضيق صاحب المال (المريح له والكافي لحوائجه ولأبنائه) أن يتخطاه غيره في (رقم المبلغ) الذي يحوزه برغم أنه لن يستعمل منه إلا ما أكل فأفنى أو لبس فأبلى ثم هو تارك ما بقي.. لكن وضع نفسه سقفا للآخرين فتعب وأتعب.
في العمل الإسلامي يضيق الداعية أن يتخطاه تلميذ، أو مجاهد أن يتخطاه جندي في مواهبه وإمكاناته..
الحقيقة أن هؤلاء (نحن) أغبياء.. نحن لسنا سقفا لأحد.. ولا ينبغي.
بل لسنا سقفا لأبنائنا، ولو فعلنا ذلك سنقتل شخصياتهم ومواهبهم ونقتل التنوع والروح الوثابة الى تغيير وإصلاح الحياة.
إن ما يجب علينا، بل إن وظيفتنا، هي أن ندفع الجميع للنمو وأخذ مساحات النمو الكافية لشخصياتهم ومواهبهم، بل وأن ندفعهم وندفع طموحاتهم الى أعلى مما يأملون، هذا دورنا يجب أن نقوم به وأن تقر أعيننا برؤيته ناجحا.
انظر الى الملائكة قد فُضّل بعضهم على بعض وتقدم بعضهم على بعض فكانت عبوديتهم أن يحفظ كل منهم محله يقوم بما أُمر به فقالوا { وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} .
ولمّا أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج بالنظر الى ما أُمر به لم يتخطه الى غيره فمدحه الله { مَا زَاغَ الْبَصَرُ } يعني عما أُمر، {وَمَا طَغَى} يعني الى ما لم يؤمر..
الذكاء الدنيوي لقيام الحياة وتنميتها ورقيها أن تسمح للجميع بالنمو حيث إنك (تُرس) من آلة وخلية من جسد وعضو في كيان، أما روح السيطرة والسقف القاتل لغيرك فهو أمر خانق للحياة وقاتل للتنوع ومدمر للمستقبل.. (في الشركة المالكة للفيس بوك مكان ومساحة لتطوير المبرمجين، وصل عدد المطورين الى 800 ألف مطور!).. هكذا ينجحون.
والفطنة في أمر الآخرة أن تقف حيث أمرك الله فيقدمك الله يوم القيامة على الجميع، فمن وضع نفسه حيث وضعه الله رفعه تعالى.. وقد تسمح بل تدفع الآخرين للنمو فيتقدمون عليك، نعم، لكنهم في ميزانك يوم القيامة فتكون المحصلة لك، فعُمر بن الخطاب في التاريخ أشهر في خلافته من الصّدّيق لكن خلافته في ميزان الصديق، هذا غير أوجه التفضيل الأُخر.. لم يضق به ابو بكر بل عرف ما فيه من الخير وقدمه ودافع عنه فاقتنع الناس بكلامه ووثقوا فيه، واستخلفوا عمر، فكان علامة في التاريخ وكان ابو بكر بهذا من أفرس الناس وأنقاهم قلبا.
أقدار الجنة غير أقدار الدنيا، وكل عطاءات الدنيا محل اختبار حتى العطاء الديني والعلم والشهرة والأتباع وغيرها، ناهيك عن الدنيا وأموالها والأبناء والمساكن والنفوذ ونفوذ الكلمة والعلم الدنيوي والألقاب والشهادات العلمية.. كل هذا محل اختبار.
أخيرا يشير شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ملحظ دقيق أن من الناس من يندفع لعبادة رأى غيره يقوم بها، فيندفع اليها على وجه المنافسة، وهذا خير، فقد قال تعالى { وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} يعني إن كان ثمة تنافس فليكن في هذا.. لكنه قال أن هناك من يقوم بالعبادة سواء ذكرها بنفسه أو ذكّره بها غيره ـ بقوله أو عمله ـ لا لينافس غيره بل لامتثال الأمر، وهذا أعلى من ذاك.. والله الموفق والهادي والعاصم.
- التصنيف: