المنافقون - (17) اتخذوا ايمانهم جنة
إن المنافق عبد مصلحته وأسير هواه وهذه المصلحة لن تتأتى إلا بظاهر يُرضي الخلق عنه؛ لذلك يحلف ليرضي الناس {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَىٰ عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِين} [التوبة 96] هذا هو ما يلزم المنافق رضا الناس وإعجابهم به أما رضا الخالق فأمر لا يشغله أصلا
غفل المنافق أو تغافل عن حقيقة نفاقه فإنه في قرارة نفسه يشعر أن ظهور تلك الحقيقة على الملأ قاب قوسين أو أدنى وإن أمره لا محالة سيفتضح في أي لحظة نعم هو يجيد الاختباء والاستخفاء {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} لكن حقيقته لا تخفى على عقله الباطن ويكاد ككل مريب أن يقول بأعلى صوته: خذوني..
لأجل هذا الشعور بقرب الانكشاف وافتضاح الأمر = فإن للمنافق حيلا دفاعية ودروعا يتترس بها خشية وقوع تلك الفضيحة الحتمية من أهم تلك الدفاعات والمتاريس = الحلف... الأيمان المغلظة... كثرة القسم... المسارعة إلى تأكيد الصدق والإشهاد على ذلك {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} بمجرد أن يدخلوا على رسول الله = تكون المسارعة إلى تأكيد الشهادة.
رغم أن سياق الآيات لم يظهر فيه أن أحدا طلب منهم هذا التأكيد لكنهم يحرصون عليه ببساطة لأنهم يعلمون أنهم يكذبون يدركون أن قولهم الظاهر يخالف معتقدهم الباطن، ويشعرون أن ذلك الاختلاف سينضح على وجوههم؛ لذلك يشهدوا ويؤكدوا ذلك مرارا ثم يظنوا أن هذا كله لا يكفي فيلجأوا إلى درعهم الأهمالأيمان.. {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} والجُنة هي السترة أو الدرع الذي يستترون به كما يستتر الجندي بجنته في حرب وقتال، وهم يحتمون بهذه الأيمان التي قد لا يجد المؤمن الذي لم يؤمر بالشق عما في الصدور إزاء ذلك الحلف إلا التصديق.
ثم يكون الصد عن سبيل الله نتيجة لهذا التترس بالحلف الكاذب كما يوضح الجزء الأخير من الآية الكاشفة في سورة المنافقون {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} = {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ويتكرر المعنى في سورة المجادلة {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة 16] .
لكن كيف يكون هذا الصد... للمفسرين في ذلك أقوال منها أن تلك الأيمان والحلف المتكرر على تقواهم وإيمانهم يؤدي إلى إظهارهم بتلك الصورة لعامة الناس الذين ينظرون إليهم على أنهم مؤمنين {وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة 56] ثم يصدم الناس بعد ظنهم أن المنافقين ضمن عموم المؤمنين حين يفاجأون بعدها بواقعهم النفاقي وسلوكهم البعيد كل البعد عن مقتضيات الإيمان فيظنوا أن إيمانهم هو الذي دعاهم لذلك السلوك المشين = فينفروا من الدين بسببهم ويكون ذلك صدهم عن سبيل الله.
وقيل صدوا عن سبيل الله بهذه الأيمان من خلال تقديمها بين يدي تآمرهم وإضعافهم للمؤمنين الذين يستمعون لهم ويصدقوا أكاذيبهم وشائعاتهم ويقع بينهم الإرجاف وتترسخ الفتن.
وقيل أن أيمانهم وكثرة حلفهم عطلت وقوع حكم الله عليهم وإنفاذ شرعه فيهم {يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} [التوبة 74] ، وإن تعطيل الشرع في النفس أو الغير = من تمام الصد عن سبيل الله
وما أسوأ ذلك {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}؛ لذلك ستجد حين تستقريء الآيات التي تحدثت عن النفاق والمنافقين ذكرا كثيرا جدا للحلف إنه أسلوبهم ومنهجهم بل هو درعهم وحمايتهم وثمة أسباب تدفعهم لهذا الإكثار من الحلف قد يكون ذلك لنجاة من عقوبة وليُعرض المؤمنون عن مؤاخذتهم على سوء صنيعهم {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ ۖ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ ۖ إِنَّهُمْ رِجْسٌ ۖ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة 95] .
وقد يكون ذلك لتخفيف وطأة المصائب التي استجلبوها على أنفسهم بشؤم أفعالهم {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء 62] وربما يكون الحلف للتحجج عن ترك البذل والعمل للدين وتزيينا للمعاذير التي يلقونها مبررين هذا الترك والهروب {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة 42] وقد يكون للسبب الأهم على الإطلاق وهو الذي يلخص حال المنافق الذي ندندن حوله منذ البداية المصلحة الظاهرة.
إن المنافق كما أسلفنا عبد مصلحته وأسير هواه وهذه المصلحة لن تتأتى إلا بظاهر يُرضي الخلق عنه؛ لذلك يحلف ليرضي الناس {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ ۖ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَىٰ عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِين} [التوبة 96] هذا هو ما يلزم المنافق رضا الناس وإعجابهم به أما رضا الخالق فأمر لا يشغله أصلا {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة 62] تأمل الشرط إن كانوا مؤمنين وما أبعدهم عن ذلك فلماذا يسعون لإرضائه إذن بل إن تمام المهزلة التي يجسدها واقع المنافقين حين يصل تعودهم على الحلف وتحصنهم بالأيمان المغلظة إلى أن يفعلوها بين يدي الله هنالك في يوم البعث وعند السؤال لقد عاشوا حياتهم على الاحتماء بالأيمان الزائفة وأدمنوا الحلف الكاذب وظنوا أنها حصون تمنعهم من الناس حتى صدقوا أنها قد تمنعهم منه من الله..
{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ }
{وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ}
{أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (المجادلة 18)
- التصنيف: