مقدمة في القيم التربوية للمعلم
لأهميةِ المعلِّم ومكانته في صناعة التقدُّم البشريِّ وصيانة الحضارة البشريَّةِ، فقد اهتمتِ الدِّرَاسَات التربويَّةُ بالبحث في صفاته ومهامِهِ المختلفة، ومنَ الأهميَّةِ بمكانٍ أن يَعْرِفَ المعلِّم ذلك؛ ليكونَ على بيِّنَة من الأمر.
الحمد لله الذي علَّم بالقلم، عَلَّم الإنسانَ ما لم يعلم، والصلاة والسلام على من بُعِثَ مُعَلِّمَاً للنَّاسِ وهادياً وبشيراً، ودَاعياً إلى اللهِ بإذنه وسِرَاجاً مُنِيراً؛ فأَخرجَ النَّاس من ظُلمات الجَهْل والغوَايَة، إلى نورِ العلم والهِدَايَة.
وبعد:
فإنَّه ما من شيء أعظم في هذه الدنيا بعد الإيمان بالله تعالى وتصديقِ نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم من تعلُّم العلم النَّافع وتعليمه، فأهلُ العِلْمِ هم في محلِّ الكرامة والتَّعظيم، وقد خصَّهم اللهُ بالرِّفْعَة والتَّفضِيل، فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].
وكيف يستوون؟! وقد رَفع الله تعالى قدرَ أهلِ العلم، وأعلى شأنَهم، فقال عزَّ من قائل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، وبيّن بأنَّهم أكثرُ الناس خشيةً له، فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
ودعانا اللهُ تعالى لأن نسلك مسالكهم، ونقفوَ آثارهم، وذلك باتباع طريقِ العلم، والاستزادة منه، فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].
كما بيَّن لنا الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم مكانةَ أهلِ العلم وفضلَهُم، وكيف أنَّ أهل السموات والأرَضين يدعون لمُعَلِّم الناس الخيرَ، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلَانِ، أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالْآخَرُ عَالِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ»، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ، حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ، لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ»[1].
فمن أكرمَهُ اللهُ تعالى بالعِلم النَّافع، الذي يستطيع من خلاله أن ينفع بني جنسه، فقد رَفَعَ شأنَه، وأعلى منزلتَهُ، وأفاض عليه من نعمته[2].
فإذا أراد العالمُ أن يشكرَ هذه النعمة العظمى فعليه أن يعمَلَ بما عَلِمَ، وأن يعلِّمَ الناسَ، فلا يكتم ما علَّمه اللهُ تعالى، فقد حذَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم من كِتمَان العلم فقال: «مَنْ كَتَمَ عِلْمًا ألجم يوم القيامة بلجام مِنْ نارِ»[3].
ولعلَّ الاعتناءَ بتكوين المُعَلِّم الناجح المتميِّز[4] في هذا العصر هو من أهم أوليات المجتمعاتِ العربيةِ والإسلامية، بعد ما أصابَهَا من ضَعْفٍ وتَرَدٍّ، وتخلُّفٍ عن ركب الحضارة.
وإذا كانت العملية التعليمية تتكون من عدة عناصر، منها المعلِّمُ والطَّالبُ والمنهجُ وغيرُها، فإنَّ أهمَ عواملِ نجاح هذه العملية هو المعلمُ الكُفْءُ النَّاجِحُ، الذي يؤدي مهمتَهُ بأمانةٍ وعلمٍ وقدرةٍ وتميُّزٍ.
ولا يمكن الحديثُ اليومَ عن أيِّ تَقَدُّمٍ للمجتمع دونَ النُّهُوضِ بالمعلِّم ورفعِ كفاءَتِهِ، فللمعلم دورُه الأساسي في العملية التربوية والتعليمية، ولأهمية دور المعلم كان لا بد من توافر شروط ومميِّزاتٍ في شخصيته؛ ليستطيع القيام بهذه المهمَّةِ العظيمة، بكفاءةٍ عالية تؤدي إلى تحقيق الأهداف المَرْجُوَةِ.
والمُعلِّم هو الشخص الذي يُؤْتَمَن على أهمِّ ما تملِكُه الأمَّةُ والمجتمعُ من ثَرْوَة، وأقصد بهذه الثروة فلذات الأكباد، وتكمن أهميَّة المعلِّم في كونه الشخصَ الذي يُعتَمد عليه في رعاية هذه الثَّروة واستثمارها الاستثمارَ الأمثلَ، الذي يُحققُ أهدافَ المجتمعِ وطموحاته، فهو يقوم بعمليَّة التَّعلِيم وفقَ الخططِ والرُّؤى التي تحققُ الأهدافَ والغاياتِ المنشودة، ويرعى تربية الأبناء ويَلْحَظُ نموَهم في شتى المجالات.
ولذلك سمَّى بعضُهم مِهْنَةَ المعلِّمِ بـ(المهنةِ الأُمِّ)؛ وذلك لأنَّها مهنةٌ سابقة وأساس لتمكين الأفراد من الالتحاق بأيِّ مهنةٍ أخرى، فالمهندس والطبيب والطيَّار والمدير وغيرُهم، لا بُدَّ لهم قبل أن يتبوءوا هذه المناصب من أن يتلَقَوا العلمَ عن المعلِّمِين في المدرسة بمراحلها المختلفة، أو في الجامعة بشتى كلياتها وتخصصاتها، وبقدر الاهتمام والتَّطور الذي يلحق بعمل المعلِّم، بقدر ما يؤدي هذا العمل إلى نمُوِّ الطلاب وتطورهم، فالأطباء والمحامون والمهندسون وغيرهم من فئات المجتمع يتأثرون في مستوى مهاراتهم الأكاديمية، وخلفياتهم المعرفية، وسلوكياتهم الأخلاقية، إلى حدٍّ كبير بسلوك معلميهم، وما يبذلُه هؤلاء المعلِّمُون من جهد طوالَ سنوات التَّعليم.
ولا شك أنَّ المخترعين وكبارَ العلماء وعظماءَ السَّاسَةِ في تاريخ العالم الحديث والقديم قد عاشُوا خبراتٍ تربويةٍ، وَفَّرَهَا لهُم معلِّمُون أَكْفَاء طوالَ مراحلِ تعليمِهم، الأمرُ الذي أثَّرَ في صَقْلِ تفكيرِهم وبناءِ شخصياتِهم على نحوٍ مكَّنَهُم منَ التَّميز، وجعلهم صنَّاعَاً لأهمِّ الاكتشافاتِ أو القرارات المؤثِّرة في حياة البشرية، كما مكَّنَ أمَمَهُم من الاضطلاع بمهمة الصَّدَارة والقيادة بين الأمم الأخرى.
ولعلَّ من أعظم الأدلة على ما سبق قولُهُ صحابةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، الذين تَخَرَّجُوا في مدرسةِ النُّبُوة، فكان منهم العلماء، ومنهم القادة، ومنهم الأبطال، ومنهم الدُّعَاة، ففتحوا الدُّنيَا من أقصاها إلى أقصاها، ودانت لهم ممالكُ الأرض في الشَّرق والغرب، فَبَثُّوا الخيرَ والنُّورَ في أرجاءِ هذه المَعْمُورةِ، وما ذلك إلاَّ لكمالِ صفات مُعَلِّمِهِم عليه الصلاة والسلام، الذي صنعه اللهُ تعالى على عينِه، فكان بحقٍّ أعظمَ نموذجٍ لِمُعَلِّم عرفتْهُ البشريةُ.
ولأهميةِ المعلِّم ومكانته في صناعة التقدُّم البشريِّ وصيانة الحضارة البشريَّةِ، فقد اهتمتِ الدِّرَاسَات التربويَّةُ بالبحث في صفاته ومهامِهِ المختلفة، ومنَ الأهميَّةِ بمكانٍ أن يَعْرِفَ المعلِّم ذلك؛ ليكونَ على بيِّنَة من الأمر.
وقد تناولتُ في كلماتي التالية هذه الصفات والمعايير والمهام التي ينبغي أن يتَّصف المعلِّمُ النَّاجحُ بها.
الكاتب: د. طه فارس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه الترمذي 5 /50 برقم 2685 وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ؛ وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد1 /124وقال: رواه الطبراني في المعجم الكبير وفيه القاسم أبو عبد الرحمن وثقه البخاري وضعفه أحمد.
[2] قال عبد الملك بن مروان لبنيه: «يا بني تعلموا العلم، فإن كنتم سادة فقتم، وإن كنتم وسطاً سدتم، وإن كنتم سُوقة عشتم"، انظر: أدب الدنيا والدين للماوردي ص23.
[3] أخرجه أحمد في مسنده 2 /499؛ والحاكم في المستدرك1 /182وقال: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين وليس له علة ووافقه الذهبي؛ وابن حبان في صحيحه 1 /297-298 برقم 95 وإسناده صحيح.
[4] درجت في بحثي هذا على ذكر لفظ المعلم فقط دون ذكر المعلمة، وهذا من باب التغليب الذي التزمَتْهُ النصوصُ الشرعية في غالبها، وإلا فالمعلمة مقصودة في الخطاب ومرادة فيه، ولا تخرج عنه.
- التصنيف:
- المصدر: