الخوف على الأسرة
للأسرة في الإسلام شأن عظيم.. يتبين ذلك لمن تأمل النصوص الواردة في بناء الأسرة، ابتداء من اختيار الزوجة الصالحة، وموافقة المرأة على الرجل الكفء.
الحمد لله الخلاق العليم، الجواد الكريم؛ {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ۖ } [الأعراف من الآية:189]. نحمده على نعمه وآلائه، ونشكره على فضله وإحسانه؛ فالخير بيديه، والشر ليس إليه، إنّا به وإليه، تبارك وتعالى، نستغفره ونتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك؛ إله الأولين والآخرين، ورب العالمين، لا معبود بحق سواه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أخبرنا أن خير الناس خيرهم لأهله، وكان هو خيرهم لأهله، فكان يخصف نعله، ويُرقع ثوبه، ويسعى في حاجة أهله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واستمسكوا بدينه، وتدبروا كتابه، واتبعوا نبيه؛ ففي ذلك الرشاد والفلاح {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:3].
أيها الناس: للأسرة في الإسلام شأن عظيم، ومقام جليل، يتبين ذلك لمن تأمل النصوص الواردة في بناء الأسرة، ابتداء من اختيار الزوجة الصالحة، وموافقة المرأة على الرجل الكفء، وتيسير المهر والنفقة على العرس؛ ليتبارك الزواج، وكذلك ما جاء من أذكار وأدعية وتبريك للزوجين، وما جاء من أجر عظيم في إحسان العشرة، وبذل النفقة، حتى ملاعبة الرجل لأهله ومعاشرتها يؤجر عليه ولو كان يرغبه ويطلبه. وكذلك ما جعل الله تعالى للمرأة من حقوق على الزوج، وما جعل على الزوجة من الحقوق والطاعة لزوجها، حتى إن طاعته مقدمة على طاعة والديها مع عظيم ما جاء في بر الوالدين من الأجر، وما جاء في عقوقهما من الإثم، ولا تكون الزوجة عاقة بطاعتها لزوجها ومخالفتها لوالديها في المباحات، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو كنتُ آمرًا أحدًا أن يسجدَ لغيرِ اللهِ، لأمرتُ المرأةَ أن تسجدَ لزوجِها. والذي نفسُ محمدٍ بيدِه، لا تؤدِّي المرأةُ حقَّ ربِّها حتى تؤدِّيَ حقَّ زوجِها كلَّه، حتى لو سألها نفسَها وهي على قَتَبٍ لم تمنَعْه» (صحيح الجامع [5295]).
كل هذه الأحكام، لماذا؟ وأمثالها كثير، لماذا؟ إنه من أجل بناء الأسرة الصالحة السوية، وأن يعيش الأولاد في بيئة آمنة مستقرة، لبناء أمة فتية قوية. وإلا فإن أكثر الأسر التي تكثر فيها خصومة الزوجين، وتنتهي بفراقهما وتشتت الأولاد تنتج أولادا محطمين معذبين، لا يشعرون بالأمن، ولا يجدون الراحة والطمأنينة.
ومن العجب العجاب في القرآن أن التعبير بالخوف تكرر في آيات النكاح والطلاق كما لم يتكرر في شأن آخر، فكل خطوة يُرشد الله تعالى إليها في هذا الشأن العظيم يُصدّرها بالخوف؛ لإرشاد الناس إلى الخوف من تشتت أسرهم، وضياع أولادهم؛ وليبادروا بحل المشكلات الزوجية وفق المنهج الرباني عند أدنى شعور بحصول ما ينغص الحياة ويكدّرها؛ لوأد المشكلات في مهدها، وإيجاد الحلول لها قبل تفاقمها، وإليكم عَرْضا مختصرا لذلك:
ففي آية مشروعية التعدد: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ } [النساء من الآية:3]، هي اليتيمة تكون عند الرجل فيرغب فيها زوجة له أو لولده، وهي لا ترغبه، أو لا يُوفي لها حقها. وزواجٌ هذا شأنه فإنه مبني على الظلم والاستغلال، فعاقبته غير حميدة؛ ولذا أرشد الله تعالى أولياء اليتيمات أن يتزوجوا ما سواهن من النساء مثنى وثلاث ورباع، ثم كرر الخوف في الآية، ولكنه خوف في شيء آخر وهو عدم القدرة على العدل بين الزوجات؛ لضعف الرجل عن إدارة نسائه وبيوته {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا} [النساء من الآية:3]. فكان مجرد الخوف من عدم القدرة على العدل مانعا من التعدد؛ وذلك لأنّ الظلم بين الزوجات يستتبعه -ولا بد- محاباة الأولاد، فيُورث الضغائن، ويزرع الإحن، ويجعل البيوت جحيما لا يطاق.
هذا في بداية النكاح ليختار الرجل الطريق الصحيح في تعدد الزوجات أو الاقتصار على واحدة.
وأثناء الزواج قد تُقصّر الزوجة في حق الزوج وتبدو بوادر تمردها عليه، فأرشد الله تعالى الأزواج إلى معالجة ذلك، وبين سبحانه خطوات العلاج التي صُدّرت أيضا بالخوف {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء من الآية:34]. فأرشد إلى الوعظ، ثم إلى الهجر في المضجع، ثم الضرب غير المبرح؛ لمنع نشوزها وتمرّدها؛ لأنه يضرها ويضر أولادها قبل أن يضر زوجها، وربما دمّر أسرتها بالفراق.
ومع ذلك فإن الزوجة قد لا ترعوي، أو يكون الزوج مخطئا وهي مصيبة، فأرشد الله تعالى إلى التحكيم بين الزوجين، وصدّر ذلك أيضا بالخوف {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء:35].
وقد تكره المرأة زوجها ولا ترغب فيه لعلة أو لغير علة، ولكن قلبها نبا عنه، ولا تطيق عشرته، وهذا غالبا يقع قبل إنجاب الأولاد؛ لأن المرأة التي مكثت عند زوجها حتى أنجبت منه فهي في الغالب راغبة فيه، وولدها يوجد حرصا منها على استدامة أسرتها. فإذا كرهت المرأة زوجها ولم تطقه فإن بقيت معه ظلمت نفسها وظلمت زوجها؛ لأنها لا تستطيع أداء حقه عليها؛ كما قالت امرأة ثابت بن قيس رضي الله عنهما لما طلبت فراقه: "مَا أعْتِبُ عليهِ فِي خُلُقٍ ولا دينٍ، ولكنِّي أكرَهُ الكفْرَ في الإسلامِ" (صحيح البخاري [5273])، فامتدحته في خُلقه ودينه، وعرّضت بكراهيتها له، وقد عالج القرآن هذه الحالة، وصُدّر الحكم الرباني فيها بالخوف أيضا: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة من الآية:229]. فلا يحل للزوج أن يسترجع شيئا من مهر المرأة إلا إذا عجزت المرأة عن قبوله والعيش معه، فتفدي نفسها منه بمهرها كله أو بعضه حسب ما يرضيه؛ وذلك لئلا يتلعب النساء بالرجال، فإذا أخذت المهر ادعت أنها لا تريده، ولا تستطيع العيش معه، فإن كانت صادقة في دعواها أعادت إليه ما نَحَلها.
وقد يكون العكس؛ وذلك بأن يكره الرجل المرأة، ولا يريدها، ولكنها تريده ويعز عليها مفارقته، وعلاج ذلك في القرآن صدر أيضا بالخوف: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ۚ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ۗ وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ ۚ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:128].
وصلحها معه بأن تسقط بعض حقها كالمبيت والنفقة ونحوها، كما فعلت سودة رضي الله تعالى عنها حين أحسّت أن النبي صلى الله عليه وسلم ربما فارقها، وهي تريد البقاء معه، فوهبت ليلتها لعائشة رضي الله عنها لعلمها بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم لها، فصالحها على ذلك وأبقاها.
نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يرزقنا العمل بما علمنا، وأن يهدينا لما يرضيه عنا، إنه سميع مجيب.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة من الآية:223].
أيها المسلمون: عالج القرآن قضايا الزواج وبيّن علاج النشوز والتحكيم بين الزوجين، وبيّن أحكام الطلاق والخُلع، وفصل حقوق الزوجين، وجعل قانون الاقتران بين الزوجين {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ۗ} [البقرة من الآية:229]. وكل ذلك يدل على عناية فائقة بأحكام الأسرة، واستدامة النكاح، وقطع أي طريق تؤدي إلى الفشل.
وتصدير كثير من الآيات بالخوف يدل على أنه يجب على الزوجين وذويهما أن يتداعوا لحل أي مشكلة قبل وقوعها، بل بمجرد الإحساس بها؛ لأن البيوت المستقرة تنتج أُسرا ناضجة، وأولادا أسوياء ينفعون أسرهم وأمتهم. وما أشد حرص الشيطان على زرع الشقاق بين الزوجين، ونفخ نيران الفتنة بينهما، وتفكيك أواصر المحبة والمودة، مما ينتج عنه الفراق، وتشتت الأولاد، كما في حديث جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ إبليسَ يضَعُ عرشَه على الماءِ ثمَّ يبعثُ سراياهُ فأدناهم منهُ منزلةً أعظمُهم فتنةً يجيءُ أحدُهم فيقولُ فعلتُ كذا وَكذا فيقولُ ما صنعتَ شيئًا قال ثمَّ يجيءُ أحدُهم فيقولُ ما ترَكتُه حتَّى فرَّقتُ بينَه وبينَ امرأتِه قال فيدنيهِ منهُ ويقولُ نِعمَ أنتَ»" (صحيح مسلم [2813]).
والأسرة الصالحة تنتج أولادا صالحين منتجين، وما أحوج الناس في هذا الزمن المُخوّف لبناء الأسر الصالحة؛ لحفظ أولادهم من الانحرافات الأخلاقية والفكرية؛ فإنّ أكثر الذين ابتلوا بالمخدرات وبالتمرد على الدين والأخلاق والقيم؛ كان سبب وقوعهم في ذلك هروبهم من مشاكل أسرهم وواقعها الأليم المملوء بالشّقاق والخصام بين الزوجين.
فحري بالأزواج والزوجات أن يحرصوا على استقرار أسرهم؛ لمصلحتهم ومصلحة أولادهم ومجتمعهم، وكلكم راع ومسئول عن رعيته.
وصلوا وسلموا على نبيكم...
- التصنيف:
- المصدر: