لِنَحْيا الشريعة.. بتعظيمِ الحدود.. و إيصالِ الحقوق (المقال الثامن)

منذ 2018-05-19

حدود الله لها مفهومٌ أرحب ضمن تكاليف أوْجب، تعُم المخاطبين وتشمل كلَّ المكلفين.. فجميع المسلمين - وليس الحُكام فقط - عليهم مسؤوليات تجاه تلك الحدود.

الذين يُصرون على اختصار الشريعة واختزالها في إقامة حدود العقوبات، التي تمثل شُعبة واحدة من شُعَب الإيمان البِضع وسبعين؛ هؤلاء جهلوا أو تجاهلوا أن (حدود الله ) لها مفهومٌ أرحب ضمن تكاليف أوْجب، تعُم المخاطبين وتشمل كلَّ المكلفين.. فجميع المسلمين - وليس الحُكام فقط - عليهم مسؤوليات تجاه تلك الحدود.. فهم مأمورون بحفظها، و منهيون عن تعديها وتخطيها.. حيث اقترن ذكرها بكثير من التشريعات التي تقوم عليها العلاقات بين المؤمنين. صحيح أن الحدود تُطلَق أحيانًا ويُراد بها الزواجر أو العقوبات المترتبة على ارتكاب بعض المُحَرمات؛ لكن معناها الأوسع - كما قال ابن رجب - أنها: "جملةُ ما أذِن الله في فعله، سواءً عن طريق الوجوب أو الندب أو الإباحة، واعتداؤها: هو تجاوز ذلك الى ارتكاب ما نهى الله عنه".

لذلك نرى اقتران كثير من التشريعات بالتحذير من تجاوز حدود الله فيها:

● ففي سياق الكلام عن حُرمة المساجد، وتحريم الرشوة وأكل أموال الناس بالباطل؛ قال الله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّـهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة من الآية:187].

● وضمن الحديث عن واجبات إحسان العِشْرة الزوجية ومُوجِباتها في حال الاتفاق أو الفراق، جاء التوجيه الإلهي بقوله عز وجل: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّـهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [البقرة من الآية:230].

● وفي إطار تأكيد حقوق النساء وتحريم ظلمهن، ولو في حال فراقهن.. قال سبحانه: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّـهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة من الآية:229].

● وبعدما فصَّل القرآن في أحكام الطلاق والعدة المترتبة عليه، قال الله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّـهِ ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّـهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق من الآية:1].

● و عندما تحدث القرآن عن دعوى الظِهار، وفصَّل في أحكام الكفَّارات الواجبة على مَنْ تورط في إثمه؛ قال سبحانه: {ذَٰلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ ۚ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّـهِ ۗوَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة من الآية:4].

● وبعدما فصّل الذِكْر الحكيم في أحكام الميراث بإعطاء كل ذي حقٍ حقَّه.. قال الله عز وجل: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّـهِ ۚ وَمَن يُطِعِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . وَمَن يَعْصِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء:13-14].

 

لكل هذا أثنى الله على من يعظِّمون شريعته بحفظهم لحدوده، فقال تعالى: {الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّـهِ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة من الآية:112]. 

وشَنَّع القرآن وحذر من المحادِّين لله، وهم الذين اخترعوا لأنفسهم شرائع وحدودًا، نأوا بها عما شرعه الله ورسوله، فكانوا هم في حدٍّ، وشريعة الله في حدٍ آخر..: {لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة من الآية:22]، كما عابَ على الأعراب عدم حفظهم لحدودَه، بما أخرجهم من عِداد عباده، فقال تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّـهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ ۗوَاللَّـهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}  [التوبة:97]. 

وتوَعد الله هؤلاء المحادِّين بخزي الدنيا وعذاب الآخرة فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} [المجادلة من الآية:5]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ أُولَـٰئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ} [المجادلة:20]، وقال: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ۚ ذَٰلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة:63].

 

وقد قسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أحكام الشريعة إلى أربعة أقسام: واجباتٍ تُؤَدى، ومحارِمَ ومنهياتٍ تُجْتَنب، وحدود وزواجر يُوقف عندها، وأمورٍ مسكوتٍ عنها، يُترك البحثُ عما غاب منها، فقال عليه الصلاة والسلام: «إنَّ اللهَ حَدَّ حدودًا فلا تَعْتَدُوها، وفرض فرائضَ فلا تُضَيِّعُوها، وحَرَّمَ أشياءَ فلا تَنْتَهِكُوها، وتَرَكَ أشياءَ من غيرِ نِسْيَانٍ من ربِّكم ولكن رحمةٌ منه لكم فاقْبَلُوها، ولا تَبْحَثُوا عنها» (ضعيف الجامع [1597]).

 

معلومٌ أن حفظ الحدود بالمعنى العام لا يُغني عن إقامتها بمعناها الخاص، ولكنَّ تخلِّي أصحاب المسؤولية العامة عن مسؤولياتهم الخاصة تجاه شرع الله لا يُسوّغ تساهل وتشاغل عموم المسلمين عن إقامة مايستطيعون من حدود الشريعة وتكاليف الدين. 

  • 2
  • 0
  • 5,181

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً