التدبُّر ببعض الآيات في خلال رمضان (المقال الرابع)
{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام: 111].
هذا دليل على أن الإيمان لا يُنال إلا بمشيئة الله وتوفيقه، أما طلبات الكفار من إنزال الملائكة وتكليمهم الموتى وغير ذلك فلا تنفعهم شيئاً إذا أنزل أو كلَّمهم الموتى أو حُشر كل شيء عليهم قبلاً أي مقابلة كما في الآية.
قال أبو جعفر الطبري -رحمه الله-: "والوجه الآخر: أن يكون "القبل" بمعنى المقابلة والمواجهة، من قول القائل: "أتيتك قبلا لا دبرا"، إذا أتاه من قبل وجهه". أنظر الأوجه الأخرى والقراءات التي أورده الإمام الطبري رحمه الله في مادة (قبلاً) في تفسيره جامع البيان ت: شاكر (12/ 48)
وإنما يظن الكفار ذلك ظناً منهم ولكن من يشاء الله هدايتهم سيهديهم ومن لم يشأ لا يهتدون ولو رأوا كل آيات الله والمعجزات.
وقد حصل لقريش معجزة انشقاق القمر فقالوا هذا سحر مستمر حتى بعدما تحقَّقوا وقالوا إن سحرنا نحن فلا يمكن أن يسحر كل الناس فلنسأل الناس في المنطقة الفلانية إذا جاءوا عندنا فلما شهدوا أنهم رأوه منشقا لم يؤمنوا كذلك.
بل إذا عرف المرء الحق بعلمٍ آتاه الله أو بمعجزةٍ لا يمكن أن يهتدي كما حصل لهرقل فإنه قد عرف الحق ولكنه لم يتبعه لضَنِّه بملكه.
إذاً هذا يسمى هداية التوفيق بل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب الهداية لعمه أبي طالب لكونه اجتهد في دفاعه خلال دعوته فعرض عليه دعوة التوحيد عند موته قائلا له: «يَا عَمُّ قُلْ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، كَلِمَةٌ أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ» فأبى إلا أن يقول هو على ملة عبد المطلب، فأنزل الله تعالى قوله: {إنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56]
فاعلم إذاً أن الناس في الهدية فريقان فريق يهديهم الله إليه وإلى رحمته وجنته كما قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 175] وفريق لا يهديهم الله طريقا إلا طريق جهنم كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا . إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 168- 169] وهو كما قال تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف: 30] وهو كما قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِير} [الشورى: 7]
ولكن الجهل كل الجهل هو لكل الذين يتكلمون عن هداية الناس جميعاً وهو خلاف سنة الله في خلقه وقد قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:35]
وكذلك من الجهل أن يقول بعض الناس حتى لا تكون فتنة أي حتى لا يوجد كافر على وجه الأرض وهذا بالطبع مستحيل وهو خلاف سنة الله في خلقه والصواب حتى يُمنع فتنة الكفار على وجه الأرض.
وكذلك من الجهل أن يُحزٍن الإنسان الداعية نفسه زيادة عن اللزوم خصوصاً لمن لم يُقدَّر له أن يكون من المؤمنين سواء كانوا أبناء أو قرابة أو جماعة كبيرة من الناس أو أشخاصاً معينين وقد قال تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ . إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء:4] وقال تعالى: {إنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56]
وكل الأمور إذاً تجري بإرادة الله سبحانه فمن شاء الله هدايته اهتدى ومن لم يشأ لم يهتد كما قال تعالى في الآية التي بدأنا في مطلع المقال.
قال الإمام الشنقيطي -رحمه الله-: "قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} صرح في هذه الآية بأن هذا القرآن هدى للمتقين، ويفهم من مفهوم الآية -أعني مفهوم المخالفة المعروف بدليل الخطاب- أن غير المتقين ليس هذا القرآن هدى لهم، وصرح بهذا المفهوم في آيات أخر كقوله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: 44] وقوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً} [الإسراء: 82] وقوله: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124-125] وقوله تعالى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} [المائدة: 64] الآيتين. ومعلوم أن المراد بالهدى في هذه الآية الهدى الخاص الذي هو التفضل بالتوفيق إلى دين الحق، لا الهدى العام، الذي هو إيضاح الحق". انظر أضواء البيان (1/ 10).
قلت -الكاتب-: هذا الكلام الذي قرَّره الإمام الشنقيطي -رحمه الله- هو الصواب إذ القرآن هدى لكل الناس مؤمنهم وكافرهم كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]
فالهداية الأولى للناس عامة وهي هداية الدلالة لهم أما الهداية الثانية التي ذكر الله فيها البيِّنات والفرقان فهي للمؤمنين خاصة وليس كما قرره الإمام الطبري -رحمه الله- أن القرآن هدى للمتقين فحسب كما قال رحمه الله: "والهدى في هذا الموضع مصدر من قولك: هديت فلانا الطريق -إذا أرشدته إليه، ودللته عليه، وبينته له- أهديه هدى وهداية.
فإن قال لنا قائل: أو ما كتاب الله نورا إلا للمتقين، ولا رشادا إلا للمؤمنين؟ قيل: ذلك كما وصفه ربنا عز وجل. ولو كان نورا لغير المتقين، ورشادا لغير المؤمنين، لم يخصص الله عز وجل المتقين بأنه لهم هدى، بل كان يعم به جميع المنذرين. ولكنه هدى للمتقين، وشفاء لما في صدور المؤمنين، ووقر في آذان المكذبين، وعمى لأبصار الجاحدين، وحجة لله بالغة على الكافرين. فالمؤمن به مهتد، والكافر به محجوج. اهـ (أنظر تفسير الطبري جامع البيان ت: شاكر [1/ 230])
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقه في الدين» .
ومفهوم مخالفة الحديث من لا يرد الله به خيرا وأراد به شرا لا يفقه في الدين.
فالذين يريد الله بهم خيرا هم المؤمنون الأتقياء كما صرَّح الله تعالى في قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282]
بل يصرف الله عن فهم آياته الكفار لكبرهم العظيم الذي في قلوبهم ولتكذيبهم مع غفلتهم عنها كما قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف:146] كما يطبع الله سبحانه على قلوب المنافقين لقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 16- 17] ولأن العلم نور وحياة ولا يرزق الله نوره وحياته إلا للمؤمنين الأتقياء كما قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122]
هذا، فإذا كان الأمر كذلك واتضح أن القرآن هدى للمتقين عامة كما هو أيضا هدى للمؤمنين عند دخولهم في الإيمان والإسلام لكن الذين يكتمل إيمانهم وهداهم هم المتقون الأبرار لازدياد إيمانهم بعلم الوحي مهما كانوا وكيفما كانوا وأينما كانوا، وهو كما قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]
إذاً والمعنى الأقرب في الآية -والعلم عند الله- أن نفع الأكبر في التذكرة بالقرآن عند المؤمنين وإن كان الكفار والمنافقون والمرتدون وأهل الشكوك والشرك والشبهات قد يهتدون به ويتذكرون به وينتفعون به بتوفيقٍ من الله سبحانه والله أعلم.
قال الله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [الأعراف: 148]
فهذا دليل على أن الأصنام لا تتكلم ولا تسمع كما لا يقدرون أن يهدوا الناس إلى سبيل الحق والهداية بل إنما يهدونهم إلى سبيل الضلال والكذب والجور فمن اتبعهم أو اتخذهم إلهاً من دون الله فهو من الظالمين، ويدخل في ذلك كل ما لا يهدي الناس إلى سبيل الحق والهداية والصدق والعدالة والأمانة بل يهدي إلى سبل الضلال والكذب والجور والظلم والخيانة والبهتان والإباحية وكل الحرام التي تفضي إلى الأمراض الفتَّاكة الشائعة في هذا الزَّمان من المبادئ الهدَّامة الكفرية كالديمقراطية ونحوها.
- التصنيف: