هل تشعر أن رمضان ضيف سنوي ثقيل؟
أما واقع المسلمين اليوم فلأنه غير منضبط بذلك التصور الأساسي، لا بالنشأة ولا بعدها، يحل رمضان حلول الغريب على أجانب! فعلى مدار سنوات متتالية من نهج حياة يغلب عليه اتباع الهوى والركون للغفلة والركض في دوامات المعيشة ومواكبة التحديات التي يمليها علينا المجتمع كيفما اتفق، تُظِلم في وعينا جوانب نتلهّى عنها ونغفلها ويثقل علينا تذكّرها إلا عَرَضًا، تذكرةً لا ينبني عليها تغيير جذري في نهج الحياة ذاك
من الشكاوَى التي قد لا تجهر بها ألسنة المسلمين وإن نطق بها حالهم في معاملة رمضان، شعور الكثيرين بهبوط رمضان عليهم كضيف ثقيل سنوياً.
ثلاثون يومًا.. فترة مبهمة نفسيًا كل عام، تتطلب تغييرات مزعجة في روتين الحياة المعتاد، وتكبّل المرء بقيود منها المرئي المشهود كمواعيد الإفطار والسحور والصلوات، وقيود أثقل غير مرئية تَحكُم الأهواء والملذات عامة وتفرض على البعض حساسية رقابة يعدّون أيامها عدّا لحين "التحرر" منها والانطلاق الفسيح بعدها!
ترى، ما الذي يجري على الحقيقة ليثقل علينا شعورنا برمضان وبأنفسنا فيه؟
فيما يلي من سطور محاولة لتحليل جذور هذه الظاهرة، وخطورتها، ومعالم علاجها:
1. رحمة الله في طيّات الإكراه!
من منّة الله تعالى على العباد "فرض" فترة رمضان كل عام، بكل ما تحمله تلك الفترة المفروضة من توابع. يأتي رمضان كل عام بمثابة "وقفة" إجبارية وإفاقة قسرية من مختلف أنماط الحياة التي نمارسها قبل أو بعد . ولا أقول إن هذا الوقف الإجباري يُراد لحِكَم ومقاصد عظيمة؛ بل إن "الإجبار" على الوقفة في حد ذاته رحمة عظيمة وحكمة كبرى. فالشاهد أننا في خِضَم عصر السعي المحموم والشهوات المستعرة اليوم ما كنا -في غالبنا- لنتكلّف مثل هذه الوقفة طواعية، ولا لهذه المدة، ولا دون مقدّمات وملطّفات تهوّن علينا وقعها! لذلك كانت الإلزامية في حد ذاتها فضلاً عظيماً، لولا أننا في تعاملنا مع رمضان نتوقف عند حدود الإلزام ولا ندقق النظر لنفهم ما يُراد من ورائه، وما يمكن أن يحمل من منافع لنا على كُره منا!
ويمكن تقريب الصورة بمثال طفل مريض تجبره أمّه على نوع حِمية معيّنة أو تمنعه من ممارسة أنشطة محببة لأن الطبيب المختص أوصى بهذا العلاج مرضه. إن الطفل لا يرى من الصورة الكلية إلا الإلزام على ما لا يحب والمنع مما يحب، ولا يعي حقيقة مصلحته الواقعة بين هذين، ولا يقدّر –من باب أولى- عظيم فضل الأم عليه إذ تثابر على مصلحته وتُلزِمه بها رغم سخطه وربما ثورته عليها!
ومن هنا كان منشأ الثّقَل الأول لهذا الزائر: هبوطه الاضطراري في منازلنا واضطرارنا الإجباري على استقباله والامتثال لطقوسه!
2. رمضان ضيف عابر أم إضافة مقيمة؟
في التصور الأساسي لنهج حياة المسلم الذي نشأ منضبطاً بسلامة العقيدة وفقه العقل وتزكية النفس، واعياً بمقاصد الوجود ومقاصد خلقه في الوجود ومقاصد وجوده بين المخلوقات، لا يُتوقع أن يهِلّ رمضان عليه بنمط حياة مغاير تمامًا –أو معارض بالكلية- لنهجه الأساسي. فرمضان عندَ مِثلِه ليس "ضيفًا" جديداً بل إضافة تجديدية لمعانٍ يعيها ونهج هو مقيم عليه في الأساس، فيزيده رمضان حين يحضره فيجدد ما وعى ويصحح ما اعوّج ويردّ ما انفلت على مدار العام.
أما واقع المسلمين اليوم فلأنه غير منضبط بذلك التصور الأساسي، لا بالنشأة ولا بعدها، يحل رمضان حلول الغريب على أجانب! فعلى مدار سنوات متتالية من نهج حياة يغلب عليه اتباع الهوى والركون للغفلة والركض في دوامات المعيشة ومواكبة التحديات التي يمليها علينا المجتمع كيفما اتفق، تُظِلم في وعينا جوانب نتلهّى عنها ونغفلها ويثقل علينا تذكّرها إلا عَرَضًا، تذكرةً لا ينبني عليها تغيير جذري في نهج الحياة ذاك. فغدت الديانة اليوم وقضاياها على المستوى الشخصي في نسق حياة الفرد المسلم كترانيم ينشدها حين موعظة، ثم ينصرف بعدها لحياته ومزاجه دون أي تكاليف "حقيقية" أو "عملية" مترتبة على الإيمان "النظري" بتلك الديانة، سواء في تصوراته وسلوكه وأولويات مشاغله وغاية معيشته... إلخ.
ثم يأتي رمضان ليجبرنا على تسليط الضوء بقوة على تلك الجوانب الغارقة في الظلام، والضوء الساطع –على نفعه- يؤذي من اعتاد الظلمة الدامسة. لذلك يثقل رمضان جدًا على من اعتاد عدم محاسبة نفسه ومساءلتها ومراجعتها، واعتاد على ترك أيامه تمضي كيفما اتفق وفيما يمليه عليه المزاج دون نظر في العواقب أو تفكّر في قيمة العمر، واعتاد على الانغماس في العالم المادي بمحسوساته وملذاته.
فالجوارح الظاهرة (السمع والبصر واللسان...) في أقصى استنفار لها على الدوام، في مقابل ضمور شديد للجوارح الباطنة كالبصيرة والتفكر والتدبر وحوار النفس، وأي خاطر متعلق بذلك العالم الغيبي حيث الموت والحساب والآخرة والجنة والنار! (لعل انغماسنا هذا في الشهوات وإدماننا للملهيات هو الذي يكدّر علينا اتساق حياتنا، وليس رمضان هو الذي يكدر علينا التخفف منها!)
ومن هنا صار الغالبية في وقع قدوم رمضان عليهم بين فريقين: فريق يترقّبه ضيفًا عابرًا يتحمله فترة ويجاريه على مضض ليمضي لشأنه بعدها، وفريق يُبتَلى به مستعمرًا اجتاح عليه معاقل الهوى والملذات فهو يعد أيام الخلاص من أسره والتحرر من ضوابطه!
لذلك تفوتنا مقاصد رمضان وآثاره الحياتية رغم التزامنا الصيام والقيام سنوياً، بسبب ذلك التصور الكامن في النفوس من التقيّد فيه والتحرر بعده كأن لا رابط بينه وبين ما يسبق أو يلي من حياة! فأنّى يكون رمضان جزءًا من حياتنا وحيواتنا ليست جزءًا من الديانة الكلية بداية؟! ومتى يتبين لنا أن رمضان ليس هو الذي يقلب نظام حياتنا بل إن نهج حياتنا هو المقلوب أصلًا لدرجة أن ننفر من أجواءالاعتدال التي "يحاول" رمضان إشاعتها فينا ؟
3. ادرس مشكلاتك الرمضانية
تحوَّل رمضان عند الكثيرين لعقدة أو معضلة ما لها حل، بسبب إشكالات معيّنة يواجهونها في هذه الفترة خاصة. وغالب هذه الإشكالات لم يفكر أصحابها في مجابهتها أول مرة، لتكاسل أو تثاقل أو "استخسار" تضييع الشهر في مناورات جادّة مع النفس (مع أن هذا المقصود التربوي من الشهر وإلا ظلت نفسك على طفولتها الأولى في التعامل معه!)، فاكتفوا بالاستسلام الساخط لها، فتعقدت وأعضلت! وهكذا بدل أن ينفق رمضان أو بعض منه في حلها، أهدرت الكثير من الرمضانات التالية على نفس الشاكلة وفي نفس الإشكالات!
مثلا: هل تشعر بالخمول المُقْعِد بعد الإفطار حتى منتصف الليل، فتصير صلوات تلك الفترة بين الترنّح والتثاؤب والتطلع لساعة الانتهاء؟
• هل جربت مناقشة نفسك في نوعية ما تتناول ومقاديره وتوزيعه على فترات؟
• هل جربت تقسيم صلاة النافلة على مدار الليل بطوله بدلا من حشدها في كتلة جوفاء بعد العشاء؟
• أو لعلك تغفو بعد العشاء ساعة مثلا لتنهض أنشط فتصلي على مهل وبتركيز؟
هل خطر لك أنه ليس ثمة إلزام بصلاة اسمها التراويح؟ بل كلها ركعات نافلات من جملة قيام الليل تبدأ من ركعة حتى العشرين وفي بعض السنة ورد أعلى من ذلك.
وهل تعلم أنه ليس ثمة إلزام بصلاتها كلها أو حتى بعضها جماعة؟ بل إن غالب شعور الإلزام في النفوس منبعه ضغط مجتمعي وتقليد متوارث، أو لأن هذا "الشكل" من التعبد (بغض النظر عن خواء روح صاحبه فيه) هو القالب الشائع والجاهز لأداء المتاح والسلام والانتهاء من صورة عبادة تحقق لصاحبها راحة نفسية بما يعينه على استكمال شهوات لاحقة من الطعام والشراب والفرجة واللهو بلا حساب بعد أن دفع نصيبه من الحساب!
هل تفكرت جادا في حقيقة الإلزام الشرعي في المقابل بإقامة الصلاة التي تصليها، بعقل ما تقوله فيها والإقبال عليها إقبال المتعبد المتقرب لله بها؟ فإذا ضاعت منك مقاصد العبادة وحدودها كما أرساها مَن فرض العبادة، فليت شعري أي عبادة تتعبد بل أي معبود تعبد؟!
سبحان الله! مع أن الله قد هدانا سبله لكننا نصر على اختراع سبل ما كتبها علينا وصرف طاقتنا حيث لم يُرِد منا، لنريح نفوسنا نحن ثم نزعم أنها في سبيله! ربما ينبغي أن نبدأ في إلزام أنفسنا بما ألزمنا به خالقنا بداية بالكيفية التي يريدها، واحترام حدود الله تعالى أولا، ونتوقف عن توهم التزامات لا تزيدنا منه إلا بُعْدا لقلة الفقه وسوء التطبيق. والعبادة الصحيحة لا تكون إلا عن علم وبصيرة وليس كيفما اتفق مما يتراءى من الخير !
4. رمضان للسباق بنفسك وليس للسباق مع نفسك!
إنما يراد برمضان أن تُسابِق فيه لربك بنفسك، بتجويد عملها وأدائها؛ وليس أن تجعل من نفسك خصماً تدخل معها في سباق محموم بتعديد الأهداف وتكديس قوائم الإنجاز على حساب الكيف والعمق!
ليس هذا أوان تدارك ما فاتك من أعمال قصّرت في إتمامها قبل رمضان، بل أوان تعويض ما فاتك من ثواب بالاجتهاد فيه بنوع الأعمال الأحسن فيه والأنسب لاغتنامه . فإذا كنت مقصراً في طلب العلم أو متأخراً في جدولك لحفظ القرآن مثلاً، ليس هذا أوان وضع خطط القراءات وسماع مختلف الدروس، ولا أوان حشد ما تأخر من سور لإنهائها قبل تمامه. هذا أوان العبادة المحضة، أي ممارسة نفس العبادات -سواء زدت في الكم أو لا- بروح عبودية حاضرة أو تجتهد للحضور.
لا بد أن يكون في وقتك ونفسك سعة أن تصلي صلاة متأنية يتسع فيها السجود لطويل الدعاء، ويتسع ما بعدها لأذكار الصلاة. لا بد أن يكون في وقتك ونفسك سعة لطول التسبيح والاستغفار، وسعة للتفكر والتدبر في إشكالات نفسك ونظام حياتك ومكامن شهواتك، ثم المثابرة على التضرع لله واستعانته على علاجها وشفائها جميعاً.
فإذا رحت تزحم الوقت بعدد الختمات وعدّاد التسبيحات وأرقام القراءات، أصبح يومك لاهثاً لا تكاد تشرع في عبادة حتى تتطلع لختامها لـ "إنجاز" ما بعدها، ولا تكاد تبدأ في تلاوة سورة إلا ويكون همّك آخرها، ولا طعم للدعاء الذي ترتّله كترانيم روتينية لإنهاء "الورد" في قائمة الإنجاز وإن لم تنهل منه شيئًا في حقيقة الافتقار! إنك بهذا تحول رمضان لماراثون إنجازات شخصية لاستشعار الرضا عن نفسك والمباهاة بجهودها (ولو أمام نفسك).
بهذا صارت نفسك بامتياز هي المحور وإنما تراد المَعبَر، وتطلعاتها شغلك الشاغل وقد كان المقصود تجردها من حظوظها. وصرت تسابق نفسك ولا تسبق بنفسك فكأنك واقف مكانك لم تبرح!
ولعلنا الآن في الختام نستشعر ثقل الدعوة التي نُكثر تردادها بكل خِفّة:
اللّهم بَلِّغنا رمضان..
فكم رمضان حتى الآن بَلَغْنَاه وما بُلِّغْناه؟!
هدى عبد الرحمن النمر
كاتبة وأديبة ومترجمة ومحاضِرة ، في مجالات اللغة والأدب والفكر والتعليم مدونة الكاتبة : https://hmisk.wordpress.com/
- التصنيف: