الإسراف وخطره على الفرد والمجتمع
إذاً المستقيم في إيمانه وفي أعماله الصالحة هو الذي ينجوا من هذا الإسراف بقسميه.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أسرف المرسلين وعلى آله ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد
فاعلم – أرشدني الله وإياك - أن الاسراف هو مجاوزة الحد كما جاء في معجم مقاييس اللغة لابن فارس مادة (سَرَفَ) السِّينُ وَالرَّاءُ وَالْفَاءُ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى تَعَدِّي الْحَدِّ وَالْإِغْفَالِ أَيْضًا لِلشَّيْءِ. تَقُولُ: فِي الْأَمْرِ سَرَفٌ، أَيْ مُجَاوَزَةُ الْقَدْرِ.انتهى المقصود منه. أنظر معجم مقاييس اللغة (3/ 153)
وكل من جاوز الحدود المضروبة من قبل الله فهو مسرف, وهو قرين الظلم والفساد. كما قال سبحانه { {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} } [ الطلاق : 1 ]
ويدخل في ذلك الاعراض سواء أدى إلى الكفر أو ما دونه خصوصا إذا أسرف في الذنوب والدليل على ذلك قوله تعالى { { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} } [ طه: 123-127]
ويقابل الله سبحانه حزاء المسرفين هؤلاء في سورة طه بجزاء المحسنين كما في قوله تعالى { { قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } } [ الزمر: 10 ]
ويخاطب الله المسرفين - وهم الذين أسرفوا في الذنوب - بلطفه ورأفته بنفس نداء المتقين ليقربهم إلى رحمته كما قال تعالى { {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } } [ الزمر: 53 ]
وهو أيضا أي الاسراف قرين الريبة والشك والتكذيب وعم الاطمئنان كما قال تعالى { {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ } } [ غافر: 34 ]
وهو أيضا قرين المكابرة والاستكبار عن الانصاف والعدالة والإيمان والحق المبين كما قال تعالى { {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} } [ غافر : 28 ]
وهو أيضا قرين الافساد في الأرض وعدم اصلاحه كما يحبه الله ويرضاه كما قال تعالى { {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} } [ الشعراء: 152 ]
وقال تعالى { {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} } [ المائدة : 32 ]
وتركه أول خطوةٍ للاستقامة على الطريق السوي للاقتصاد في المعاملات اليومية للفرد والمجتمع كما قال سبحانه كما قال سبحانه { {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} } [ الفرقان: 67 ]
كما هو أول خطوة للتورع والزهد المشروع بالقسطاس المستقيم سواء كان ذلك في الأكل والشرب أو الزينة في اللباس أو غيره كما قال تعالى { {يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} } [ الأعراف: 31 - 32 ]
وهنا كما ترى فيه نهيٌ صريحٌ من الاسراف في المأكل والمشرف كما فيه وعيدٌ من الله بكراهيته للمسرفين ثم بيَّن الله سبحانه في الآية التي بعدها أنه لا يمنع أن يتزيَّن عباده بالطيِّبات من الرزق في حدود الشرع وأنه ليس ذلك من الاسراف المذموم كما قد يتصوًّره أهل الزهد البارد. ففي الحديث " : « لا يدخلُ الجنةَ مَنْ كان في قلبِهِ مِثقالُ ذرَّةٍ من كِبرٍ ، قِيلَ : إنَّ الرجُلَ يُحبُّ أنْ يكونَ ثوبُهُ حسنًا ، ونعلُهُ حسنةً ، قال : إنَّ اللهَ جميلٌ يُحبُّ الجمالَ ، الكِبرُ بطَرُ الحقِّ ، و غمْطُ الناسِ»
الراوي : عبدالله بن مسعود و عبدالله بن سلام | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح الجامع | الصفحة أو الرقم : 7674 | خلاصة حكم المحدث : صحيح
وأيضا التمتع بأنواع الفواكه المختلفة التي هي الأرزاق الطيبة من الله إذا كان ذلك في حدود الشرع ليس من الاسراف كما قال سبحانه {َ {هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } } [ الأنعام: 141 ]
أما الفرق بين الاسراف والتبذير فهو أن الاسراف مجاوزة الحدود في المباحات, والتبذير الإنفاق في الحرام ولو كان ذلك في قرشٍ واحد فإنه حرام.
ولذلك جاء أشد التأكيد والتنفير في النهي عنه كما أخبر الله سبحانه أن فاعل ذلك من إخوان الشياطين والشيطان كان لربِّه كفورا كما قال سبحانه { {وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا } } [ الإسراء 26 – 27 ]
ثم أنبِّه في الأماكن التي يدخل هذا الاسراف في المجتمع كالتالي:
1 - الاسراف في حفلات العرس ورمي المأكولات الطازجة في خزانات المهملات ومع ذلك يوجد فقراء محتاجون لهذه الأطعمة
2- الاسراف في الاستخدامات اليومية سواء كان ذلك في المياة أو في المآكل أو استخدام المال نفسه
3- الاسراف في التمتمع في الفواكة والخضروات أكثر من اللازم والتباهي بها في المجالس
4- الاسرف في تغيير الملابس وأثاث البيت بأسرع وقت ممكن والتباهي بذلك كذلك بل الاسراف في تغيير البيوت والعمارات كذلك للأغنياء مما لا يتصوره الفقراء المساكين
5- الاسراف في توفير الأطعمة الوفيرة في رمضان وفي غيره أكثر من اللازم حتى يفسد كثيرا منه في الاستخدام أو قبل الاستخدام
ثم لابد من العلم أن الاسراف قسمان قسم يدخل في عقائد الناس وفي أعمالهم كما أوضحت في الآيات في مطلع المقال وقسم يدخل في استخدامات الناس في أموالهم.
إذاً المستقيم في إيمانه وفي أعماله الصالحة هو الذي ينجوا من هذا الإسراف بقسميه.
أما المتقلب والمعوج في عقيدته وفي أعماله فلا إخاله ينجوا من هذا الاسراف المحذور وما يترتب عليه من العقوبات في الدنيا والآخرة , والعياذ بالله.
جعلنا الله من الثابتين على الحق وعلى الطريق المستقيم ووقانا الله من الفتن كلها ما ظهر منها وما بطن ومن الاسراف في القول والعمل والعقيدة إنه هو المولى والقادر على ذلك
الفقير إلى عفو ربه ورحمته
عبد الفتاح آدم المقدشي
- التصنيف: