مظاهر العلمانية قي بلاد المسلمين:المقال السادس
ومنذ اللحظة الأولى أحس الغرب - المغرور بتقدمه المادي - بتفوقه الاجتماعي على الشرق الذي لا شك أنه كان فيه من الفضائل ما يفتقده الغرب، لكن نظرة الغالب إلى المغلوب لا تسمح بالرؤية الصحيحة عادة
العلمانية في الاجتماع والأخلاق:
كانت الحياة الاجتماعية في العالم الإسلامي قد انحرفت منذ بضعة قرون، لكن صورة الانحراف لم تبلغ أوجها إلا في مطلع العصر الحديث حيث أصبح المجتمع في أخلاقه وتقاليده وعاداته ينطلق من منطلقات غير إسلامية إذ غلبت الأعراف الجاهلية والعواطف المتهورة والعادات المستحدثة على الأخلاق الإسلامية الأصيلة، غير أن الناس بحكم العاطفة الدينية الموروثة وبما جبلوا عليه من الغيرة على فضائل الخلق كانوا ينسبون كل قيم وموازين وأعراف مجتمعهم للدين، أو على الأقل -يلتمسون لها فيه أصولاً، ورسخ ذلك الانحراف المتمسح للدين حتى أصبح هو الواقع الذي كان لدى الناس استعداداً للوقوف في وجه من يحاول تغييره سواء أكان مجدداً إسلامياً أم مفسداً أجنبياً، وهم - على أي حال - يبررون موقفهم بالاستناد إلى الدين.
وفي القرن الماضي احتك المجتمع الإسلامي المنحرف بالمجتمع الغربي الشارد عن الدين، ومنذ اللحظة الأولى أحس الغرب - المغرور بتقدمه المادي - بتفوقه الاجتماعي على الشرق الذي لا شك أنه كان فيه من الفضائل ما يفتقده الغرب، لكن نظرة الغالب إلى المغلوب لا تسمح بالرؤية الصحيحة عادة، لا سيما والروح الصليبية من ورائها.
وبالمقابل أحس المجتمع الشرقي بالانبهار القاتل واستشعر النقص المرير، ولم يتردد الغربيون الكفرة في القول بأن سبب تخلف الشرقيين هو الإسلام فقد استمدوا ذلك من الوهم الذي كان يسيطر على أولئك بأنهم مسلمون حقاً !
وهكذا كان الطريق مفتوحاً لمهاجمة الأخلاق وتدمير مقومات المجتمع من خلال مهاجمة ذلك الواقع المتخلق الذي لا يمثل الإسلام، وكان النموذج الغربي المشاهد - الذي فصل الأخلاق عن الدين -يزيد الأمر قوة ووضوحاً.
وإذا علمت قوى الصليبية الحاقدة - من مستعمرين ومبشرين ومستشرقين - أن البؤرة التي تتجمع فيها أصول أخلاق ومقومات المجتمع وغيره - فقد وضعت المخططات الماكرة لسلب هذه الميزة من المسلمين بإفساد المرأة المسلمة وإشاعة الدياثة بينهم.
ولما كانت الأمة الإسلامية هي المسؤولة - أولاً وآخراً - عن كل هذا، ولما كان الجانب الذاتي من المشكلة هو الأخطر والأهم، فسوف نوليه جل اهتمامنا.
........ومنذ أيام محمد علي ابتدأت حركة الابتعاث إلى الدول الأوروبية، وكان من أشهر المبتعثين الأوائل الشيخ رفاعة الطهطاوي الذي يعد كذلك من رواد الإصلاح. هذا الشيخ المبتعث كتب عن مدينة باريس "باريز "كتاباً يصف فيه لأبناء أمته الحياة الاجتماعية في فرنسا آنذاك، تعرض فيه لوصف النوادي والمراقص فقال :
"والغالب أن الجلوس للنساء ولا يجلس أحد من الرجال إلا إذا اكتفت النساء، وإذا دخلت امرأة على أهل المجلس ولم يكن ثم كرسي خال قام لها رجل وأجلسها ولا تقوم امرأة لتجلسها، فالأنثى دائما في المجالس معظمة أكثر من الرجل، ثم أن الإنسان إذا دخل بيت صاحبه فإنه يجب عليه أن يحيي صاحبة البيت قبل صاحبه ولو كبر مقامه ما أمكن، فدرجته بعد زوجته أو نساء البيت ".
هذا الكلام يوحي لقارئه بدلالات نذكر منها اثنتين :
1-إن الأخلاق ليست مرتبطة بالدين، وهي فكرة انقدحت في ذهن الشيخ لكنه لم يستطع أن يعبر عنها بجلاء، فها هو المجتمع يمارس ألوان الدياثة التي لا يرضاها الدين طبعاً ولكنها مع ذلك ليست خارجة عن قوانين الحياء ولا يشم منها رائحة العهر بل هي معدودة في باب الأدب.
وقد نمت هذه الفكرة وترعرعت حتى قيل صراحة : إن الحجاب وسيلة لستر الفواحش وأن التبرج دليل على الشرف والبراءة، ومن ثم فلا علاقة بين الدين والأخلاق.
2-إن هذا المجتمع الديوث يكرم المرأة ويحترمها، وفي المقابل نرى المجتمع الإسلامي يحافظ على العرض لكنه يحتقر المرأة - حسب الواقع آنذاك - وبذلك نصل إلى المفهوم الذي وجد في أوربا نفسه وهو أن حقوق المرأة مرتبطة بتحررها من الدين فما لم ينبذ الدين فلن تحصل على هذه الحقوق
وقريب من قصد رفاعة ما قصده أحمد فارس الشدياق إذ وصف بأسلوبه المقامي الخاص الحياة الغربية ووضع المرأة فيها في كتابه (الساق على الساق) ".
على أن الحركة التي تقوم على الوعي لا على السذاجة لم تكن منطلقة من آراء هذين - رفاعة والشدياق - وأمثالهما، بل من أفكار شخصية أخرى هي شخصية جمال الدين الأسد أبادي المعروف بالأفغاني.
كان جمال الدين متأثراً بشعارات الماسونية - التي رفعتها الثورة الفرنسية - لا سيما شعار المساواة، واعتقد أن من أعظم علل الشرق أن المرأة فيه ليست متساوية مع الرجل في الحقوق والواجبات، وكان من تلاميذه الذين سرت فيهم هذه الفكرة محمد عبده، وقاسم أمين الذي كان مترجماً لجمعية العروة الوثقى وقد سبق الحديث عن الأول أما الأخير فهو مبتعث إلى فرنسا للدراسة يقول عنه مؤرخ حياته :
"ويعود قاسم إلى قاعة المحاضرات بجامعة مونبليه وهو أشد رغبة في تعريف المزيد عن الحياة في أوروبا، وهناك يجد زميلته "سلافاً"... فلا يتردد في سؤالها أن تصحبه إلى المجتمعات الفرنسية وتقبل هي في سرور باد، وصحبته فتاته إلى كثير من الحفلات وتعرف إلى كثير من الأسر فوجد حياة اجتماعية تختلف عن الحياة في مصر، وجد السفور بدل الحجاب والاختلاط بدل العزلة والثقافة بدل الجهالة".
وعاد قاسم إلى مصر يحمل إلى أمته فكرة خطرة عرضها أصدقائه فتردد بعضهم وأيده أكثرهم وخاصة الزعماء مثل : سعد زغلول ومصطفى كامل وأحمد لطفي السيدوكذلك علي شعراوي زوج هدى شعراوي - الملقبة بزعيمة الحركة النسائية وغيرهم ممن قال عنهم كرومر "أسميهم حباً في الاختصار أتباع المرحوم المفتي السابق الشيخ محمد عبده".
وأظهر قاسم فكرته تلك في كتابيه (تحرير المرأة) و (المرأة الجديدة) وعند صدور الأول شك كثيرون في كونه كاتبه لما حواه الكتاب من عرض ومناقشة الأقوال الفقهية والأدلة الشرعية التي كان مثل قاسم قليل البضاعة منها، ولكنهم لم يشكوا في أن الذي دفعه إلى الفكرة أحد رجلين إما كرومر وإما محمد عبدهويحل لطفي السيد الأشكال في كتابه قصة حياتي إذ يقول :
"إن قاسم أمين قرأ عليه وعلى الشيخ محمد عبده فصول كتاب (تحرير المرأة ) في جنيف عام 1897م قبل أن ينشره على الناس ".
وجاء مثل هذا في كتاب (قاسم أمين) أيضا.
وعلى أية حال فقد ظهر كتابه (تحرير المرأة) الذي يمكن تلخيص أفكاره فيما يلي:
1- إن المرأة مساوية للرجل في كل شيء و"إن تفوقه البدني سببه استعمال الأعضاء"- ويتضح من هذا تعريضه بالقرآن الكريم وتأثره بالدرواينية -.
2-"إن الانتقاب والتبرقع ليسا من المشروعات الإسلامية لا للتعبد ولا للأدب بل هما من العادات القديمة السابقة على الإسلام والباقية بعده "وهي عادة عرضت على المسلمين " من مخالطة بعض الأمم فاستحسنوها وأخذوا بها وبالغوا فيها وألبسوها لباس الدين كسائر العادات الضارة التي تمكنت في الناس باسم الدين والدين منها براء"لكن طوعاً لمقتضيات الاجتماع وجرياً على سنة التقدم والترقي ".
3-إن الحجاب ليس عائقاً عن التقدم فحسب بل هو مدعاة للرذيلة وغطاء للفاحشة في حين أن الاختلاط يهذب النفس ويميت دوافع الشهوة !.
وقد حرص قاسم على تبرئه نفسه من تهمة الدعوة إلى تقليد الغرب في مناداته بهذه الفكرة مدعياً أن الدافع الوحيد هو الحرص على الأمة والغيرة على الدين والوطن، فهو يزعم أن أصل فكرته هو الرد على "داركور" المستشرق الذي هاجم الحجاب، ولست أدري ماذا ترك قاسم لداركور !
لكن كتابه الثاني "المرأة الجديدة "يكذب ادعاءاته تلك فهو يقول فيه :
"هذا هو الداء الذي يلزم أن نبادر إلى علاجه وليس له دواء إلا أصولها وفروعها وآثارها، وإذا أتى ذلك الحين - ونرجو ألا يكون بعيداً -انجلت الحقيقة أمام أعيننا ساطعة سطوع الشمس وعرفنا قيمة التمدن الغربي وتيقناً أن من المستحيل أن يتم إصلاح ما في أحوالنا إذا لم يكن مؤسساً على العلوم العصرية ".
وقد طبق ذلك في بيته فأحضر لابنتيه مربيتين - إحداهما فرنسية والأخرى إنجليزيةوظل قاسم حريصاً على دعوته داعياً إلى فكرته "إلى آخر نسمة من حياته القصيرة ففي ليلة وفاته بالسكتة القلبية في 23 أبريل 1908م كان يقدم طالبات رومانيات في نادي المدار العليا ".
وقد ناصر قاسماً وأيده كثير من الزعماء والأدباء والصحفيين، منهم غير من ذكرنا سلفاً الشاعر ولي الدين يكن الذي يقول من قصيدة له:
أزيلي الحجاب عن الحسن يوماً وقولي مللتك يا حاجبه
فلا أنا منك ولا أنت مني فرح ذاهباً ها أنا ذاهبة
والشاعر العراقي الزهاوي، ومن ذلك قوله :
هزأوا بالبنات والأمهات
وأهانوا الزوجات والأخوات
هكذا المسلمون في كل صقع
حجبوا للجهالة المسلمات
سجنوهن في البيوت فشلوا
نصف شعب يهم بالحركات
منعوهن أن يرين ضياء
فتعودن عيشة الظلمات
إن هذا الحجاب في كل أرض
ضرر للفتيان والفتيات
- التصنيف:
- المصدر: