مع القرآن (من الأحقاف إلى الناس) - اقتربت الساعة وانشق القمر

منذ 2019-01-14

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ

{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} :

أخبر تعالى أمة رسوله الخاتم صلى الله عليه وسلم بأن الساعة قد اقتربت وأن الأمر قد حسم , فلا نجاة في هذه الدار إلا باللحاق بسفينة الإيمان واتباع قائدها وربانها محمد صلى الله عليه وسلم , واجتناب السير في ركاب المكذبين المستكبرين الذين لم ينتفعوا بالآيات الباهرة التي رأوها ولم ينتفعوا بعقول لو أنصفت لاتبعت الحق.

طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم انشقاق القمر فدعا ربه فشقه أمامهم فقالوا سحر أعيننا محمد , ولم يكتفوا بتكذيب أعينهم وما رأوا , بل لما تأكدوا من الركبان أنهم رأوا نفس الآية من مسافات بعيدة عن مكة , ادعوا أن محمداً سحر الدنيا بأسرها , كل هذا حتى لا يذعنوا لأمر الله ويؤمنوا بدينه ويطبقوا شريعته, لأنهم مدركون تماماً أن أوامر الله ستهذب شهواتهم وتهذب أهواءهم , وتنشر العدل والإحسان بينهم , فاختاروا حظوظ النفس واتباع الهوى ونيل الشهوات المحرمة بعيداً عن قيود شريعة أو إذعان لأوامر إلهية , وهو نفس فعل المشوهين للشريعة المعادين للرسالة في كل عصر قديماً وحديثاً.

رغم أن القرآن أخبرهم عن أخبار الأمم السابقة وهلاك المكذبين , بل وتواترت تلك الأخبار بينهم كتاريخ متوارث في الأرض , ورغم ذلك لم يلتفتوا وغرتهم دنياهم وغرهم إمهال الله , فلم تغن عنهم النذر ولا الأخبار وهلكوا مع الهالكين.

قال تعالى :

{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ } . [القمر 1-5]

قال السعدي في تفسيره:

يخبر تعالى أن الساعة وهي القيامة اقتربت وآن أوانها، وحان وقت مجيئها، ومع ذلك، فهؤلاء المكذبون لم يزالوا مكذبين بها، غير مستعدين لنزولها، ويريهم الله من الآيات العظيمة الدالة على وقوعها ما يؤمن على مثله البشر، فمن أعظم الآيات الدالة على صحة ما جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، أنه لما طلب منه المكذبون أن يريهم من خوارق العادات ما يدل على صدقه، أشار صلى الله عليه وسلم إلى القمر بإذن الله تعالى، فانشق فلقتين، فلقة على جبل أبي قبيس، وفلقة على جبل قعيقعان، والمشركون وغيرهم يشاهدون هذه الآية الكبرى الكائنة في العالم العلوي، التي لا يقدر الخلق على التمويه بها والتخييل.

فشاهدوا أمرا ما رأوا مثله، بل ولم يسمعوا أنه جرى لأحد من المرسلين قبله نظيره، فانبهروا لذلك، ولم يدخل الإيمان في قلوبهم، ولم يرد الله بهم خيرا، ففزعوا إلى بهتهم وطغيانهم، وقالوا: سحرنا محمد، ولكن علامة ذلك أنكم تسألون من قدم إليكم من السفر، فإنه وإن قدر على سحركم، لا يقدر أن يسحر من ليس مشاهدا مثلكم، فسألوا كل من قدم، فأخبرهم بوقوع ذلك، فقالوا: { { سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ } } سحرنا محمد وسحر غيرنا، وهذا من البهت، الذي لا يروج إلا على أسفه الخلق وأضلهم عن الهدى والعقل، وهذا ليس إنكارا منهم لهذه الآية وحدها، بل كل آية تأتيهم، فإنهم مستعدون لمقابلتها بالباطل والرد لها، ولهذا قال: { {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا } } ولم يعد الضمير على انشقاق القمر فلم يقل: وإن يروها بل قال: { {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا } } وليس قصدهم اتباع الحق والهدى، وإنما قصدهم اتباع الهوى، ولهذا قال: { {وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} } كقوله تعالى: { {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} } فإنه لو كان قصدهم اتباع الهدى، لآمنوا قطعا، واتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم، لأنه أراهم الله على يديه من البينات والبراهين والحجج القواطع، ما دل على جميع المطالب الإلهية، والمقاصد الشرعية، { {وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} } أي: إلى الآن، لم يبلغ الأمر غايته ومنتهاه، وسيصير الأمر إلى آخره، فالمصدق يتقلب في جنات النعيم، ومغفرة الله ورضوانه، والمكذب يتقلب في سخط الله وعذابه، خالدا مخلدا أبدا.

وقال تعالى -مبينا أنهم ليس لهم قصد صحيح، ولا اتباع للهدى-: { {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ} } أي: الأخبار السابقة واللاحقة والمعجزات الظاهرة { {مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} } أي: زاجر يزجرهم عن غيهم وضلالهم، وذلك { {حِكْمَةٌ} } منه تعالى { { بَالِغَةٌ} } أي: لتقوم حجته على المخالفين ولا يبقى لأحد على الله حجة بعد الرسل، { فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ } كقوله تعالى: { {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ لا يؤمنوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} }

#أبو_الهيثم

#مع_القرآن

أبو الهيثم محمد درويش

دكتوراه المناهج وطرق التدريس في تخصص تكنولوجيا التعليم من كلية التربية بجامعة طنطا بمصر.

  • 6
  • 1
  • 21,097
المقال السابق
هذا نذير من النذر الأولى
المقال التالي
فتول عنهم يوم يدع الداعي إلى شيء نكر

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً