كيف تصنع الأسر العريقة أجيالها؟

منذ 2019-01-24

من سمات الأسر العظيمة توقير كبارها وأكابرها، وتقديم أهل الفضل والرّأي والعلم منهم، فلو وقفوا في صف أو اجتمعوا في مجلس لما اختلّ لهم نظام

أجد في نفسي سعادة بالغة حينما أرى الأسر النّبيلة تعتني بأنجالها من الجنسين في تهذيب العقول، وتنمية المواهب، وبناء الثّقة، وتقويم الأخلاق، ورفع الوعي، وكنت أحتفظ بما يخدم هذا المسلك الرّشيد من تأملات ومعلومات حتى اجتمع لديّ ما يصلح للنّشر، عسى الله أن ينفع به أيّ أسرة تسعى للحفاظ على مجدها أو تشييد عراقتها.

وكي تنتج الأسرة جيلًا مشبعًا بالمعاني السّامية، حاملًا للرّاية الشّريفة، محافظًا على المسيرة المباركة، فإنّها تجتهد في تنفيذ ما يلي أو بعضه، علمًا أنّ الأمثلة للتّوضيح ويوجد غيرها:

ترسيخ ركائز الثّقافة المحليّة:

لكلّ بيئة ثقافة تختصّ بها، وليس حسنًا أن تنتسب أسرة لمكان وهي تجهل ثقافته وتقاليده، أو ترضى بانتهاكها علنًا دون موقف واضح منها، مع تنمية الاعتزاز الأسري والتّواصي بهذه الثّقافة في الظّاهر والله العالم بالبواطن.

حفظ تاريخ الأسرة:

تسعى الأسر الكريمة إلى توثيق تاريخها، وتداوله بين بنيها، مع صيانة الوثائق والمخطوطات المتعلّقة بالأسرة؛ حتى تظلّ ذكرياتها عبقة حيّة حاضرة في أصعب الأحوال، ففي ظلمة السّجن لم ينس الصّديق يوسف دين آبائه عليهم الصّلاة والسّلام في سياق حديثه مع صاحبيه عن تعبير الرّؤى، واعتنت أسرة آل باش أعيان في البصرة بمحتويات مكتبتها العبّاسية النّادرة، ونأت بها عن أيدي المحتل المخرّب، ولأسرة العتيقي مسار فريد في حفظ وثائقها ونشرها ودراستها.

المحافظة على تقاليد الأسرة:

تلتزم بعض الأسر العريقة بتقاليد خاصّة منطلقة من أعرافها ومصالحها، ومن ذلك مراسم الزّواج والميلاد لدى الأسرة الملكيّة في بريطانيا، فعندما سيطر الحب على إداورد الثّامن، آثر محبوبته وخسر العرش، فتقاليد البيوت الكبيرة فوق أيّ اعتبار، ومن هذا الباب سعي بعض الأسر لترميم مجالس أسلافهم ودورهم كما فعل آل الجميح وآل المهنا وغيرهم، ومن هذا القبيل إبراز سير قدوات الأسرة وطرائقها.

الاحتفاء برموز الأسرة وقدواتها:

حتى ينشأ الصّغار على معرفة الأمور التي تنال بها العظمة والرّفعة والتأثير الكبير، ومن ذلك تقدير أسرة الدّريس لأديبها الكبير، وإجلال أسرة التّركي لشيخها الأبرز، وبذلك تتفتح العيون والأذهان على هذه المواقف فيعرف الشّبان أهميّة النّبوغ، وسمو معرفة الفضل لأهله، وقيمة القدوة والاقتداء، وكانت العرب تحيي سادتها كلما عبروا من موضع، وتعلي من توقيرهم ومقامهم، وتنشر محاسنهم كي تحتذى.

التّراتبية والتّوقير:

من سمات الأسر العظيمة توقير كبارها وأكابرها، وتقديم أهل الفضل والرّأي والعلم منهم، فلو وقفوا في صف أو اجتمعوا في مجلس لما اختلّ لهم نظام، وما تزاحموا على مكان، ومن ذلك الصّدور عن رأيهم كصنيع إسماعيل مع والده الخليل عليهما السّلام سواء في تغيير عتبة الدّار، أو الاستسلام التّام للذّبح، فجمعا ذروة التّعبد مع قمّة العراقة.

المشاركة في المجالس:

رأي عمرو بن العاص رضي الله عنه في جاهليته أطفالًا من قريش يجلسون بعيدًا عن منتدى آبائهم؛ فانتقد صناديد قومه قائلًا: قربوهم فإنّهم إن يكونوا صغار قوم اليوم فهم كبارهم غدًا، ولذلك نجد أنّ الأسر البصيرة تفتتح مجالس دوريّة لا تغيب عنها أجيالها، ففي المجالس خبرات، ومعارف، وسلوك، وفوائد جمّة، ويتوافد أبناء الأسر الكبيرة للمشاركة في مناسباتها المجدولة والفجائية قدر المستطاع، وتمتاز أسر الأحساء بمجالسها ومقرّاتها الثّابتة كالملحم، والمبارك، والجبر، ولأسر جلاجل -الأحساء الصّغرى- تطبيقات موفقة في ذلك كما عند أسر الأحيدب، والفايز والواصل ، والسّلمان، والسّعيد.

التّهيئة الخاصّة:

تبعث الأسر التّجاريّة نجباءها لدراسة فنون الإدارة ومهارات الاستثمار، وتهيئ بيوت الحكمالمناسب من ناشئتها للنّهوض بالحمل الثّقيل، ويتساجل الشّعراء مع بنيهم ويتبارون في اهتبال المناسبات لإبداع القصائد. وسمعت عن بعض رموز السّياسة إلزامه بعض بنيه بقراءة مصنّفات تاريخيّة ومقدّمة ابن خلدون وغيرها، وأمّا إتقان الّلغات فشأن شائع في هذه الأسر، ومن الطّريف أنّ الجنرال الدّيكتاتور فرانكو تولّى تربية خوان كارلوس وإعداده لعرش إسبانيا، فصنع منه زعيمًا بمواصفات مثاليّة، وحينما يأس ملك الأردن عبدالله الأوّل من ولديه طلال ونايف صرف جهده مع حفيده الحسين. ولأهميّة التّهيئة أنشأت أسرة الماجد مؤسسة ينحصر عملها في تعميق مهارات أبنائها وبناتها، والارتقاء بقدراتهم، وزيادة معلوماتهم ورفع وعيهم، وواجب على كل أسرة فاضلة الانصراف الجاد نحو تمتين قدرات شبابها.

إجادة فنّي الإصغاء والحديث:

قطع حديث المتكلّم بلا سبب وجيه جريمة، وسوء أدب، ومن المعيب إهمال مهارة الإصغاء والاستماع، ومن عظمة الإنسان صماته حتى يكمل محدّثه كلامه على هدي نبينا عليه السّلام حين قال: ” أفرغت يا أبا الوليد”؟، وجودة الاستماع ينجم عنها ملكة براعة الحديث، فالعياية نقص بيد أنّ شينها يعظم في الأكابر، ولأجل ذلك دفعت بيوتات قريش أطفالها للبادية لتقوية أجسادهم والتقاط أفصح لغة، وضرب البعض أولاده على الّلحن والهجنة.

ممارسة فنون القيادة:

القيادة موهبة وفن قابل للتّعلم والاكتساب، وأفضل ميدان للتّدريب عليها هو إتاحة الفرص للتّطبيق مع التّقويم والإرشاد، ثمّ تصدير المؤهل للعمل الملائم، فقائد واحد ينجز فرقًا كبيرًا، ولذلك قال رسول أمير حائل له حين عاد من الكويت: إن يسترجع أحد من هذا البيت مجد آبائه فلن يكون إلّا عبدالعزيز!

المعايشة مع الأنداد:

قرأت في سيرة أحد علماء الحجاز أنّ الشّريف حسين طلب منه خلط ابنه عبدالله -ملك الأردن فيما بعد- مع أنجب طلاب المدرسة كي ترتقي مداركه، وقالت حفيدة ساطع الحصري إنّ الملك فيصل طلب منه انتخاب أذكى طلبة العراق ليدرسوا مع ابنه غازي حتى يجاريهم في العلم والحوار، ويستعدّ لاعتلاء عرش بغداد، فأخطر أمر يصيب عقول أبناء الأسر الوجيهة بمقتل أن يحاطوا بمنتفعين أو منافقين أو محدودي الذّكاء لا يناقشون، ولا يعترضون، ولا يفيدون بشيء، وإنّما يرتفع وعي المرء بمقارعة أولي الألباب، ومن عوائد الأسر الثّريّة أن يعمل أبناؤها في غير شركات الأسرة بضع سنوات، والذي يثبت جدّيته وجاهزيته يستقطب لشركة الأسرة في موقع تنفيذي أوّل الأمر.

إدارة التّعاقب:

تعمل الأسر المؤثرة على توريث مجدها لأجيالها، بإشراكهم منذ الصّغر، وتعريفهم بأسرار العمل ومفاتحه، ويظهر هذا مثلًا في تعاقب العمل الإسلامي والشّوري في آل نصيف، واستمرار التّجارة في آل زينل، وتداول الزّعامة في آل جنبلاط، وانتشار العلوم والمهن والمهارات في أسر بعينها، وأعظم تعاقب هو تعاهد الإيمان حين سأل يعقوب بنيه عليهم السّلام: “ما تعبدون من بعدي”؟

المشاركة الإيجابيّة:

تعوّد الأسر النّابهة أبناءها على المشاركة في الشّؤون العامة، وفي سيرة سيدّنا الكريم عليه الصّلاة والسّلام نلاحظ حضوره مع أعمامه في التّجارة، والأحلاف، والحروب، حتى صار رمزًا معروفًا بالصّدق والأمانة.

العمل التّطوعي:

تمتاز الأسرة الحاكمة في بريطانيا بعرف أشبه بالالتزام، حيث يقضي بنوها سنة على الأقلّ في ممارسة عمل طوعي كي يعتادوا على الإدارة، ويتعرّفوا عن قرب على هموم النّاس ومشكلاتهم، وتنكسر فيهم شرّة النّفوس وبطرها، وتحرص أسرة الرّاجحي على إسهام أكثر أفرادها في خدمة الحجيج مع حملتهم الخيريّة، وفي موائد التّفطير بالحرمين يتشارك العامل مع ابن المنفق في الخدمة والتّرتيب، وتمتاز أسر خليجيّة عديدة بأوقافها ذات المنافع الذّريّة والعامّة، ويشرف خيار أبنائها عليها بسماحة وإبداع.

التّعويد على أدب القول ولطف الفعل:

دخل عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه على مجلس عمّه الخليفة عبدالملك وفي مشيته ميلان فاستخبره عن السّبب فقال عمر: فيّ جرح! فقال عبدالملك: أين؟ فأجابه: بين الرّانقة والصّفن! وخرج بهذين الّلفظين عن التّصريح بعضوين يستقبح ذكرهما، فاغتبط عبدالملك بهذا الجواب الفائق.

وتلتزم بعض الأسر بملابس للظّهور العلني، وتتحاشى أفعالًا وألفاظًا وتحظر الاقتراب منها، وتربي أطفالها على ذلك بمجرّد أن يعقلوا الأمر والنّهي.

التّحفيز والتّشجيع:

يروى أنّ أبا سفيان قال لزوجه هند مشيرًا لرأس معاوية- رضي الله عنهم-: إنّ رأسه لضخم وأظنّه سيسود قريشًا! فقالت هند ومعاوية يسمع: ثكلته إن لم يسد العرب قاطبة! وهكذا تسلك الأسر الماجدة مع بنيها؛ حيث تشجّعهم وتخبرهم بما تتوقع منهم مستقبلًا، ولأسرة المهيدب منهج تحفيزي من خلال جائزة سنويّة شهيرة للمتفوقين.

الحرّة بعيدة عن الدّنايا:

الفرار من الرّيب سمة كرام النّاس، وهو أليق في جانب الحرائر العقائل العفيفات، ولذلك استغرب بنو إسرائيل من مريم حين رأوا معها طفلًا وهي الحصان سليلة البيت الصّالح الطّاهر، وقالت عربيّة أبيّة بتعجب: أو تزني الحرّة؟ تجوع الحرّة ولا تأكل بثدييها! وأنفت إحداهنّ من الخمر حين رأت نتائجها الخبيثة، واستهجنت أن تشرب المرأة منها شيئًا، وتمنع العائلة الإمبراطوريّة في اليابان الأميرات من نشر صورهنّ إلّا بعد موافقة القصر!

إنّ الأسر العريقة بحضورها الفخم، وتأثيرها الإيجابي، ونفوذها الواسع، وتأييدها للخير، ومقاومتها للشّر، تعدّ أحد صمّامات الأمان في أيّ مجتمع، وتنسج شبكة متينة، وبناء متماسكًا، يحفظ على الآخرين دينهم ودنياهم، ويعود ترابطها المتين، وتشبثها بتقاليدها الرّزينة بمآثر حميدة عليها، وعلى أهل ناحيتها فمن بعدهم، وتلك لعمر الله بركة العراقة، والأصالة، والسّمو، والتّاريخ المجيد.

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض

  • 3
  • 1
  • 5,622

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً