وَلَمْ أَبْتَذِلْ فِي خِدْمَةِ العِلْمِ مُهْجَتِي
"والله لقد كنتُ أوقد الفتيلَ لأبحث عن مسألةٍ من مسائل الفِقْه، فيخنقني الدُّخان فأُطفئه، ثم أوقده، ثم أطفئه، ولا أنتهي من المسألة إلاَّ قرابة منتصف اللَّيل، وأنتم في الكهرباء والنِّعمة!".
يقول القاضي عليُّ بن عبدالعزيز الجرجاني:
يَقُولُونَ لِي فِيكَ انْقِبَاضٌ وَإِنَّمَا
رَأَوْا رَجُلاً عَنْ مَوْطِنِ الذُّلِّ أَحْجَمَا
وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ العِلْمِ إِنْ كَانَ كُلَّمَا
بَدَا مَنْهَلٌ صَيَّرْتُهُ لِيَ سُلَّمَا
وَلَمْ أَبْتَذِلْ فِي خِدْمَةِ العِلْمِ مُهْجَتِي
لِأَخْدُمَ مَنْ لاَقَيْتُ لَكِنْ لِأُخْدَمَا
إلى آخِر القصيدة، وهي تحتوي على كثيرٍ من الأمور التي تقتضي التَّنبيه عليها والوقوف عندها، ولكن الذي أريد التَّنبيه عليه هنا فقط صدر البيت الأخير (وَلَمْ أَبْتَذِلْ فِي خِدْمَةِ العِلْمِ مُهْجَتِي)، وما يشير إليه.
• فمَن منَّا ابتذل في خدمة العلم مهجتَه؟
• وماذا يقصد بابتِذال المُهجة في خدمة العلم؟
• وهل يمكن تحصيلُ العلم من غير ابتذال المهجة؟
• وهل يكفي ابتذالُ المهجة في تحصيل العلم؟
• ولماذا عبَّر الجرجانيُّ بذلك التعبيرِ في هذا الموطن؟
كثيرٌ من الناس يطلبون العلم، أو يحسبون أنَّهم يطلبون العلم، ولكنَّهم ليسوا على الجادَّة؛ ولذلك فأكثر تعَبِهم باطل، وأكثر جهدهم في ضياع، هذا إذا لم يكن ضررُه أكثرَ من نفعه!
وكثيرٌ من الناس يظنُّ أنه يطلب العلم، وما هو في الحقيقة إلاَّ لاعِبٌ يضيع وقته في الاستمتاع ببعض الأمور المتعلِّقة بالعلم، وليست هي الطلبَ المقصود.
والحقيقة أنَّ العلم يحتاج إلى ما هو أكثر من بذل المهج؛ وقد قال موسى - عليه السَّلام -: ﴿ {لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا } ﴾ [الكهف: 60]، فالعلم يحتاج:
• إلى بذل النَّفس والنفيس.
• إلى بذل المال والجاه.
• إلى هَجْر البلاد والعباد.
• إلى السَّهر والتعب.
• إلى السفر والمرض.
• إلى الصَّبر والمصابرة.
• إلى المواصلة والمثابرة.
• إلى القوَّة والذكاء.
• إلى الحيلة والدَّهاء.
• إلى المُداراة والتلطُّف.
• إلى الزمن الطويل والعمر المديد.
... إلخ.
ولسان حالهم يُنشد مع أبي القاسم الزمخشري:
سَهَرِي لِتَنْقِيحِ العُلُومِ أَلَذُّ لِي
مِنْ وَصْلِ غَانِيَةٍ وَطِيبِ عِنَاقِ
وَتَمَايُلِي طَرَبًا لِحَلِّ عَوِيصَةٍ
فِي الدَّرْسِ أَشْهَى مِنْ مُدَامَةِ سَاقِي
وَصَرِيرُ أَقْلاَمِي عَلَى أَوْرَاقِهَا
أَحْلَى مِنَ (الدُّوكَاهِ) وَالعُشَّاقِ
وَأَلَذُّ مِنْ نَقْرِ الفَتَاةِ لِدُفِّهَا
نَقْرِي لِأُلْقِي الرَّمْلَ عَنْ أَوْرَاقِي
أَأَبِيتُ سَهْرَانَ الدُّجَى وَتَبِيتَهُ
نَوْمًا وَتَبْغِي بَعْدَ ذَاكَ لَحَاقِي؟!
ويُروى عن أبي الرَّيحان البِيروني أنَّه حين حضرَتْه الوفاة، سأل مُجالِسَه عن مسألةٍ في الفرائض، فقال له: أفي تلك الحال؟ فقال: لأَنْ أموت عالِمًا بهذه المسألة خيرٌ من أن أموت بها جاهلاً!
وبمثل هذا صار البيرونيُّ في الطبقة الأولى من العلماء الموسوعيِّين.
وقال الحاكم عن أهل الحديث:
"آثَروا قطع المَفاوز والقِفار، على التنعُّم في الدِّمَن والأوطار، وتنعَّموا بالبؤس في الأسفار، مع مُساكنة العلم والأخبار، وقنعوا عند جمع الأحاديث والآثار، بوجود الكسر والأطمار... نبَذوا الدُّنيا بأسرها وراءهم، وجعلوا غذاءهم الكتابة، وسمرَهم المُعارضة، واستِرْواحَهم المذاكرة، وخلوقَهم المداد، ونومهم السُّهاد، واصطلاءهم الضِّياء، وتوسُّدَهم الحصى، فالشدائد مع وجود الأسانيد العالية عندهم رخاء، ووجود الرخاء مع فقد ما طلبوه عندهم بؤس، فعقولهم بلذاذة السُّنة غامرة، تعلم السُّنن سرورهم، ومجالسُ العلم حُبورهم".
وقال الهذلي:
أَتَرْجُو أَنْ تَسُودَ وَلاَ تُعَنَّى ♦♦♦ وَكَيْفَ يَسُودُ ذُو الدَّعَةِ البَخِيلُ؟!
وقال الشاعر:
تَمَنَّيْتَ أَنْ تُمْسِي فَقِيهًا مُنَاظِرًا
بِغَيْرِ عَنَاءٍ وَالْجُنُونُ فُنُونُ
وَلَيْسَ اكْتِسَابُ الْمَالِ دُونَ مَشَقَّةٍ
تَكَبَّدْتَهَا، فَالعِلْمُ كَيْفَ يَكُونُ؟
وقال الشيخ الشِّنقيطيُّ صاحب "الأضواء":
"والله لقد كنتُ أوقد الفتيلَ لأبحث عن مسألةٍ من مسائل الفِقْه، فيخنقني الدُّخان فأُطفئه، ثم أوقده، ثم أطفئه، ولا أنتهي من المسألة إلاَّ قرابة منتصف اللَّيل، وأنتم في الكهرباء والنِّعمة!".
ويقول: "كانت أذُني تؤلمني حتَّى أجد من الجهد والألم ما الله به عليم، فأضع الفتيلة في أذني لِكيِّه من أجل أن يسكن الألم، وكتابي في حجري لا أتحوَّل عنه".
وقال الشيخ المختار الشنقيطي:
"وأذكرُ بعضَ الفضلاء من أهل العلم كان من رُفَقائنا في طلب العلم، كنت إذا دخلتُ عليه أزوره، فأجلس أحادثه وأذاكره في المسائل، الكتاب في حِجْره، والله لا أخرج عن مُذاكرة العلم قليلاً إلاَّ تركني، وأقبل على العلم، ولم يُجامِلْني".
وقال السيوطيُّ في مقدِّمة "الأشباه والنظائر":
"وكيف يُقاس مَن نشأ في حجر العلم منذ كان في مَهدِه، ودأبَ فيه غلامًا وشابًّا وكهلاً حتى وصل إلى قَصدِه، بدخيلٍ أقام سنوات في لهوٍ ولعِب، وقطع أوقاتًا يحترف فيها أو يكتسِب، ثم لاحت منه التفاتةٌ إلى العلم، فنظر فيه وما احتكَم، وقنِع منه بتَحِلَّة القسَم، ورضي بأن يقال عالِمٌ وما اتسَم".
والمقام طويل الذُّيول، ولكن يكفي من القِلادة ما أحاط بالعُنق.
والله المستعان، وعليه التُّكلان
أبو مالك العوضي
- التصنيف:
- المصدر: