السببية المتوهمة في مقابلة (ما يمسكهن إلا الرحمن)
وهذا التسخير إنما فعله الله لنا كي نستطيع العيش والتعامل مع الكون، لكن ليس لأن ننسى الله ونحل القوانين والظواهر محله! .
سبق أن طرحت موضوعا أن أغلب المتعلمين على نمط غربي مثلي ومثلك تربى ونشأ على أن قوانين الفيزياء هي علة كل ما يحدث حولنا، وهذا النموذج قد أخطأنا به خطأ فاحشا وهو أنه أوهمنا أن وظيفة العلم الإجابة على سؤال "لماذا"، لكن العلماء الجادين يعلمون في خبايا أنفسهم أن العلم بالكاد يجيب على سؤال "كيف" فقط، والقوانين ما هي إلا نماذج عقلية رياضية استقرائية، أي أننا طورناها باستقراء ظواهر الطبيعة، والنظريات الفيزيائية ليست أسبابا هي الأخرى، بل هي نماذج عقلية نستنتج بها القوانين من مسلمات أكثر منها بدهية، لكني عندما أقول لماذا يسقط الجسم عندما أتركه ويقول لي قائل: "إن هذا بسبب مجال الجاذبية"، فاعلم أن هذه الإجابة تدل على عدم تفهم فلسفة العلم وحدوده، فمجال الجاذبية هو نموذج عقلي لنستطيع استنتاج سرعة التساقط في أي ظرف ومكان وزمان، هو نموذج يجيب على "كيف" ، وليس على "لماذا"! أما السبب دائما هو إرادة الله، والمسبب دائما هو الله في كل حدث دقيق أو جليل! . والله تعالى يشير إلى ذلك صراحة في القرآن في إشارات عدة ليحذرنا من الانزلاق في هوة الإلحاد الخفي أو الشرك الخفي! مثل أن يقول تعالى ﴿ {أَوَلَم يَرَوا إِلَى الطَّيرِ فَوقَهُم صافّاتٍ وَيَقبِضنَ ما يُمسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ بَصيرٌ} ﴾ [الملك: ١٩] و ﴿ {أَلَم يَرَوا إِلَى الطَّيرِ مُسَخَّراتٍ في جَوِّ السَّماءِ ما يُمسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِقَومٍ يُؤمِنونَ} ﴾ [النحل: ٧٩] "ما يمسكهن إلا الله" تنبيه لك أيها المسلم ألا تنزلق في التفاصيل وتنسى أن النظريات الفيزيائية والمعادلات والقوانين هي إجابة على "كيف"، أما "لماذا" لا يقع الطير؟ فالإجابة بصراحة ووضوح هي ( {ما يمسكهن إلا الله} ) ، والإشارة إلى أن هذه الطريقة في التفكير هي طريقة تفكير المؤمن بالله ( {إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِقَومٍ يُؤمِنونَ} )، أما من يؤمن أن القوانين هي المسبب والسبب معا فإنه قد أشرك شركا خفيا من حيث لا يدري. ﴿ {وَكَأَيِّن مِن آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالأَرضِ يَمُرّونَ عَلَيها وَهُم عَنها مُعرِضونَوَما يُؤمِنُ أَكثَرُهُم بِاللَّهِ إِلّا وَهُم مُشرِكونَ} ﴾ [يوسف: ١٠٥-١٠٦] . وفي مواضع أخرى ينبهنا الله حتى لا ننزلق في هذا المنزلق الخطير.. مثل: ﴿ {فَليَنظُرِ الإِنسانُ إِلى طَعامِهِأَنّا صَبَبنَا الماءَ صَبًّاثُمَّ شَقَقنَا الأَرضَ شَقًّافَأَنبَتنا فيها حَبًّا} ﴾ [عبس: ٢٤-٢٧] أفرأيتم المفعول المطلق (صبا، وشقا)، إن المفعول المطلق ينبهنا بقوة أن الله هو المسبب لا غيره، فنزول المطر ليس السبب فيه تكاثف بخار السحب ونزوله كمطر ليس بسبب الجاذبية، وشق الأرض ليست بسبب نمو النبات ودفعه للطين، بل كل هذه الظواهر هي في عقولنا نحن فقط، نحن من نميل دائما لربط التوالي الزمني ربطا سببيا، فمبجرد أن يحدث "أ" قبل "ب" ويتكرر هذا دائما نُلبِس "أ" تلقائيا لباس السببية ونعده سببا ل "ب"!
التسخير :
لكن حقيقة الأمر أن الله جعل الحقيقة المشاهدة ثابتة مع تكرار الظاهرة كنوع من تسخير الطبيعة لنا حتى نستطيع التعامل مع الطبيعة والتنبؤ بما سيحدث مستقبلا (بإذن الله) بناءً على ما حدث سابقا، وهذا التسخير إنما فعله الله لنا كي نستطيع العيش والتعامل مع الكون، لكن ليس لأن ننسى الله ونحل القوانين والظواهر محله! . والتسخير جاء صراحة في نفس الآية التي نبهنا الله فيها أنه المسبب الوحيد! ﴿ {أَلَم يَرَوا إِلَى الطَّيرِ مُسَخَّراتٍ في جَوِّ السَّماءِ ما يُمسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِقَومٍ يُؤمِنونَ} ﴾ . أرأيت كيف أن الطيور تسبح في جو السماء لأن الله أراد ذلك (ما يمسكهن إلا الله)، وليس بسبب قوانين الديناميكا الهوائية مما تعودنا! أما تكرار الظاهرة دائما فهو تسخير من الله للكون - ومن ضمنه الطير وطيرانه - لنا حتى نستطيع التعامل معه وفهم ماذا حدث وماذا سيحدث (بإذن الله) في إطار نموذج أو نظرية عقلية. ( {أَلَم يَرَوا إِلَى الطَّيرِ مُسَخَّراتٍ في جَوِّ السَّماءِ} ) ثم استخدام ذلك الفهم من أجل تحقيق مهمة الخلافة في الأرض.
والله أعلم
- التصنيف: