كيف تُنشِئ عدوا في بيتك !
تندفع عشرات الأسئلة كالسيل الهادر أمام توجيهات ونصائح تدس السم في العسل، وتُرتب أضرارا نفسية وصحية مبالغا فيها، إن أصر الآباء على الوقوف في وجه ميول صغارهم الاستهلاكية
تطرح وسائل التواصل الاجتماعي بشكل محتدم ومتواصل، عددا مهولا من المقاطع المرئية التي تعكس مشاعر الدفء الأسري، وصورة الطفل/ قرة العين، والطفل/ فلذة الكبد، الذي حوّل والداه كل حركاته وسكناته إلى إنجاز يُدر آلاف المشاهدات.
طبعا يشكل ميلاد الطفل منعطفا استثنائيا في رتابة الحياة بين زوجين، فتنتقل إلى رصيده كل مفردات الحب ومشاعر البذل والفرح والسعادة، غير أن الخطاب القرآني يؤرجح العلاقة بالأبناء بين تعبيرين بالغي الحساسية: الأول هو "زينة الحياة الدنيا"، والآخر هو "الفتنة". والملاحظ أن التعبير الأول هو الأكثر هيمنة في الواقع اليومي، مما يعطل دلالة التعبير الثاني أو يطرحها جانبا تفاديا للإحراج والتخوف الذي يثيره لفظ الفتن !
كان الصحابي الجليل عوف بن مالك الأشجعي(ت 73هـ) إذا أراد الجهاد اجتمع حوله أولاده وبكوا وهم يقولون: إلى من تدَعُنا، فيرقُّ لحالهم ويقيم، فنزل قوله تعالى: ﴿ {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم} ﴾ التغابن:14. وهذه الآية الكريمة تُنبه إلى المسار الذي قد تفضي إليه الموازنة بين العاطفة والمبدأ، حين ترجح كفة الاختيار الأول فتودي بالمرء إلى الخسران. يقول القاضي أبو بكر بن العربي، في تقريبه لمدلول العداوة المقصودة : هذا يبين وجه العداوة؛ فإن العدو لم يكن عدوا لذاته وإنما كان عدوا بفعله. فإذا فعل الزوج والولد فعل العدو كان عدوا، ولا فعلَ أقبح من الحيلولة بين العبد والطاعة.
ويُفرد القصص القرآني مساحة دالّة على خطورة هذا المنحى التربوي في العلاقة مع الأبناء، فقصة نوح عليه السلام مع ابنه الذي فضل الاعتصام بجبل على اتباع الحق، شاهدٌ على تغليب المبدأ على العاطفة، في مشهد يذوب له القلب أسى.
وخبر الغلام في رحلة موسى عليه السلام مع العبد الصالح، دليل قوي على أن من الأبناء من يكون فتنة قد تعصف بحياة الوالدين إن لم يتداركهما الله تعالى برحمته. يقول الشيخ متولي الشعراوي في تعليقه على القصة:"والفتنة بالأولاد تأتي من حِرْص الآباء عليهم، والسعي إلى جعلهم في أحسن حال، وربما كانت الإمكانات غير كافية، فيُضطر الأب إلى الحرام من أجل أولاده. وقد عَلِم الحق ـ سبحانه وتعالى ـ أن هذا الغلام سيكون فتنة لأبويه، وهما مؤمنان ولم يُرِد الله تعالى لهما الفتنة، وقضى أن يقبضهما إليه على حال الإيمان."
ومن التصرفات النبوية التي تؤكد هذا المسلك، ما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:" «أتى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم تمرٌ من تمر الصدقة، فأخذ الحسن بن علي تمرة فلاكها(مضغها)، فأدخل النبي صلى الله عليه وسلم أصبعيه في فيه فأخرجها وقال: ( كخ، أي بني أما علمت أنا لا تحل لنا الصدقة» .رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة (3295).
نتوقف في هذا الحديث مع لفظتين تؤشران على خطورة الأمر، أي تقديم المبدأ على التصرف العاطفي الذي لا تحتمله بعض المواقف؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم أدخل أصبعيه في فم الحسن بعد أن مضغ التمرة وسرت حلاوتها في لعابه، وهو تصرف يمكن لكل الآباء القيام به، إن كان للتمرة ضرر على صحة الطفل لا على دينه وخُلقه. ثم أن الحسن صبي لا يميز، وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم لنهيه لفظةً تقال عادة للصبيان وهي "كخ"، وبذلك يُبطل ما ألفه بعض الآباء من تبريرات لأفعال الصغار، والتي تؤشر على خرق المبدأ وانتهاك الحدود !
تركز العديد من الإنتاجات الدرامية، سواء العربية منها أو الأجنبية، على تجليات تضحية الآباء من أجل الأبناء. وأغلب تلك التضحيات تتمحور حول ارتكاب المعاصي وانتهاك المحرمات، من سرقة ونصب وسفك للدماء. والرسالة التي تتشربُها العقول يكون مفادها في الغالب إيجاد عذر لأحد الوالدين في انتهاكه للمعايير الدينية والقانونية، من منطلق أن عاطفة الأمومة أو الأبوة بمثابة تيار جارف لا يصمد أمامه العقل والمنطق.
لكن، هل نحن ملزمون حقا باتباع هذا النهج في علاقتنا بصغارنا؟
وهل يجوز لعاطفتي الأمومة والأبوة، مهما بلغ سمو دورهما في الحياة، أن يُعطلا أو يخرقا ميثاقا إلهيا قوامه: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؟
ألم يكن حريا بماشطة ابنة فرعون أن تُظهر الكفر وتُبطن الإيمان حتى ينجو صِغارها من عذاب فرعون؟
ألم يجدر بالخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز أن يطعم بناته الصغار مما لذ وطاب، بدل أن يكون عشاؤهن العدس والبصل، حتى أنهن تحاشين الإقبال عليه كي لا تؤذيه الرائحة الكريهة ؟
تندفع عشرات الأسئلة كالسيل الهادر أمام توجيهات ونصائح تدس السم في العسل، وتُرتب أضرارا نفسية وصحية مبالغا فيها، إن أصر الآباء على الوقوف في وجه ميول صغارهم الاستهلاكية، وحاجة الأسواق إلى زبائن صغار لا يملون من التسوق وتكديس المنتجات !
إن القضايا المرتبطة بحقوق الطفل، ومعايير التنشئة في بيئة تربوية آمنة، هي أمور ينبغي التصدي لمعالجتها من منظور يراعي خصوصيات الأمة، ومقومات دينها الحنيف. فتعزيز الولاء للعقيدة والمبدأ أمر لا يمكن التهاون فيه بتاتا، وكل حق من حقوق الطفل لا ينبغي أن يُسقط بالمقابل واجبا أو قيمة، أو سلوكا حسنا مما نص عليه الكتاب والسنة.
إن الأمر بالغ الحيوية والخطورة، حتى لا ننشئ أعداء في محاضننا، ونُخرب بيوتنا بأيدينا !
- التصنيف: