رحلة الأعراف ومعركة التوحيد
وتطوف بنا السورة في أبعاد زمانية ومكانية ونفسية متساوقة، عبر معارك نبوية فاصلة، فتعود بنا إلى أعماق التاريخ لنسير في رحلات متطاولة مع قوافل الأنبياء، وهم يجادلون قومهم، ويقررون حقيقة واحدة متكررة: "يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره."
كتب الأستاذ/هاني مراد
تستهل السورة رحلتها بزلزال حاسم: " {كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه} ".
إنّ صاحب العقيدة لا ينبغي له أن يشعر بمجرد الحرج في مكنون صدره، فضلا عن تردد قوله أو فعله! إنّ المؤمن بالحقيقة – على الحقيقة - لا يخجل من الصدْح بها مدوّية، لتضيء دنيا الناس في أحلك الظلمات.
ولأن هذه العقيدة تستهدف أمرا هائلا ثقيلا، دونه صعاب جسام، وتكشف رؤى وتقرر حقائق، وتبني نفوسا وتهدم أفكارا، وتستهدف تغيير أوضاع وتقاليد، وقيم وموازين، وعقائد وتصورات، فكيف يشعر من يريد تصحيح ذلك كله بالحرج؟
ويباغت السياق في مطلعه المكذبين ويزلزلهم: "وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون." إن السياق لا يترك لهم مجالا مكانيا أو زمانيا. فهو لا يستهدف استئصال أفكارهم وباطل عقائدهم فقط، بل يباكر بتهديد قاصم، فيتوعدهم بمصائر المكذبين، ويذكرهم بمصارع الغابرين.
وتطوف بنا السورة في أبعاد زمانية ومكانية ونفسية متساوقة، عبر معارك نبوية فاصلة، فتعود بنا إلى أعماق التاريخ لنسير في رحلات متطاولة مع قوافل الأنبياء، وهم يجادلون قومهم، ويقررون حقيقة واحدة متكررة: "يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره." ويستنكر أقوامهم الاستنكار نفسه، ويستبشعون أن يكون لله الذي خلقهم كلمة في اقتصاد أو سياسة، فهم يريدون دينا طقوسيا كهنوتيا، حتى يتفردوا بالزعامة والمال والسياسة والاقتصاد. إنه جحود المشركين ذاته في كل زمان ومكان.
وتصور معارك رهط رسل الله الكريم مع الملأ المستكبرين والأتباع الجاهلين، طبيعة الصراع بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، وبين التوحيد والشرك. ومع عرض مصارع الغابرين ومصائرهم المتشابهة بعد كل قصة، يقف السياق ليحذر مشركي قريش، من أن يلقوا المصير ذاته، ثم تمضي الرحلة لتواصل مسيرها.
وتجول بنا السورة في رحلة عوالم ومشاهد وجودية شاخصة وأسرار كونية آسرة، لتستنطق شهادة هذا الوجود المبدع، الذي يقر بحقيقة التوحيد في جلاء وصفاء، فكيف للإنسان أن يشذ عن لحن هذا الكون المؤمن، وينفر من عبودية خالقه الذي "له الخلق والأمر؟"
- التصنيف: