الأخوة لماذا؟ - رابعا: لرأب صدع الخلاف الذي حَطَّ من صحوتنا
الخلافات التي تحدث بين الملتزمين ينبغي أن تتلاشى في بوتقة الحب في الله، وإلا فليتهم كلُ منّا نفسه، ويحاول أن يجرد الإخلاص في علاقاته بإخوانه من جديد.
إخوتاه ..
الخلافات تحدث في حياة النَّاس وهي سُنّة جارية، فالناس جميعًا لا تجد فيهم اثنين متماثلين من كل الوجوه، فالطباع مختلفة والثقافات متباينة والقلوب قد تكون متضادة وهكذا.
…فالخلاف سنة مطَّردة من سنن الله في خلقه وملكوته، وليس كل مختلفٍ قبيحًا، ولا كل متباين جميلاً، وأنت إذا ألفت شيئًا وظلَّ على وتيرة واحدة انبعث في نفسك شعورٌ بالملل وانصرفت رغبتك فيه، إذ الأصل في المخلوقات النقص، والنفس مفطورة على الارتباط بالكمال، ولن تجد ذلك إلا حين تحب الله، وتُحب في الله، حينها تنصهر كل المشكلات وتذوب كل الخلافات.
إخوتاه ..
…في عالم النَّاس يعرفون أنَّ الخلافات لا تدوم إذا كانت بين متحابين، فإذا لم يكن هناك سابق وُدّ يحدث الصراع عادة وتتولد المنازعات، فإنك إذا أحببت إنسانًا واختلف معك في مسألة من المسائل في وجهة نظر معينة تتقبلها ولا تُفسد قضيةٌ ما بينكما من المودة، لكن إن كنت لا تألفه ازدادت النفرة وحدث الصدام.
…لذلك نقول: إنَّ الخلافات التي تحدث بين الملتزمين ينبغي أن تتلاشى في بوتقة الحب في الله، وإلا فليتهم كلُ منّا نفسه، ويحاول أن يجرد الإخلاص في علاقاته بإخوانه من جديد.
إخوتاه ..
…تعالوا بنا نقف وقفة يسيرة مع "قضية الخلاف" نرصدها بعين الأخوة والحب في الله، فإذا كان الاختلاف الإنسانى حقيقة فطرية وإرادة ربانية بحكمة مقصودة هي من أسرار الوجود {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود/ 118 - 119]،
وإذا كانت فكرة الموضوعية المطلقة فكرة غير واقعية،، بل تظل الأمور كلها مرهونة بشيء واحد هو مشيئة الله تعالى، فهنا تفهم معنى قوله: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال/63]، فلا طريق للألفة الحقيقية التي تتلاقى فيها القلوب وتذوب فيها الخلافات إلا إذا تلاقت إرادات النَّاس في وجهة واحدة هي ابتغاء وجه الله جل وعلا.
إخوتاه ..
…فالخطوة الأولى نحو التقليل من حدة الخلاف عمومًا تنبع من الإخلاص بإرادة وجه الله تعالى وحده والتعلق به.
ثم تأتى الخطوة الثانية في العلم، إذ غالب الاختلافات التي تحدث تكون بسبب الجهل وعدم العلم، ولو سكت من لا يعرف لقلَّ الخلاف، ولا سبيل للتحكم في هذه المعضلة إلا بالتقوى، إلا بتربية القوم تربية سلفية، يضع كل واحد منهم أمامه الأمثلة الحية من سيرة السلف ليتزود بها في مثل هذه المواقف، فلا يتجرأ على الفتيا بغير علم.
…قال الله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} [النحل/116].
…أخرج ابن أبى حاتم عن أبى نضرة رضى الله عنه قال: قرأت هذه الآية فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا.
…وقال تعالى: {آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [يونس/59 - 60]
…يقول الزمخشرى: كفي بهذه الآية زاجرة زجراً بليغًا عن التجوز فيما يُسأل من الأحكام وباعثة على وجوب الاحتياط فيها، وأن لا يقول أحد في شيء جائز أو غير جائز، إلا بعد إتقان وإيقان، ومن لم يوقن فليتق الله وليصمت، وإلا فهو مفتر على الله تعالى. أهـ.
…وقال ابن المنكدر: المفتى يدخل بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يفعل؟! فعليه التوقف والتحرز لعظم الخطر.
…قال أهل العلم: من سئل عن فتوى فينبغي عليه أن يصمت عنها، ويدفعها إلى من هو أعلم منه بها، أو من كلف الفتوى بها، وذلك طريقة السلف.
…قال ابن أبى ليلى: أدركت مائة وعشرين صحابيًا، وكانت المسألة تعرض على أحدهم فيردها إلى الآخر حتى ترجع إلى الأول.
…وهذا كان حال السلف، أما نحن فجرأة غير محسوبة العواقب، وتَصُدّر لما ينبغي الإحجام عنه، فينبغي أن يكون قصارى عهدك نقل العلم والتبليغ إن وثقت في ذلك،
وشهد لك أهل العلم برسوخ قدم، وإلا فدونك جسر جهنم يعبر الناس عليه لتلقى أنت في حميمها، اللهم سَلّم سَلّم.
…وينبغي على الأخ الحبيب أن يدع اللجاجة في الجدل، ويعتاد ترك المراء وإن كان محقًّا، ولا يتنطع ولا يغلُ.
…قال ابن مسعود: تعلموا العلم قبل أن يقبض، وقبضه أن يذهب أهله، ألا وإياكم والتنطع والتعمق والتبدع وعليكم بالعتيق.
…فحذار حذار من التعالم قال - صلى الله عليه وسلم -: {المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبى زور}.
…وبالجملة عليه أن يتحلى بآداب طالب العلم، وينبغي أن يُفهم من هذا الكلام الحض على تعلم العلم النافع والتأدب بآدابه لا التنفير، لأنَّ بعض الناس تستهويه البطالة والدعة فكلما أردت أن توجهه إلى الصواب لا يأتي بخير ويدع العمل فافهم المراد واستعن بالله ولا تعجز.
إخوتاه ..
…أنذرتكم مغبة هذا الفصام الغريب الحادث بين العلم والعمل، وبين تعلم العلم والتحلي بآدابه، فخذوا العلم من وجهه، ابدأ بتعلم العقيدة واحفظ القرآن وتعلم فقه فروض الأعيان والكفايات لتعرف كيف تعبد الله، تعلم اللغة العربية لتفهم القرآن والسنة، ابدأ بحفظ الأربعين النووية وراجع شرحها في كتاب "جامع العلوم والحكم" لابن رجب، خذ لمحة عن علوم القرآن ومصطلح الحديث وأصول الفقه، ولا ينبغي أن يتوقف نموك العلمي "من المهد إلى اللحد" فهذا هو السبيل للتقليل من حدة الخلاف، إذا ازدان هذا العلم بالأدب والتقوى، واستصحب هنا هذا الأصل النافع والقاعدة العظيمة، فأمور العقائد لا تقليد فيها ولا يتسع فيها الخلاف؛ لأنها من القطعيات، أمَّا مسائل الفروع ممّا اختلف فيها سلفنا فإنَّه يسعنا ما وسعهم ولا حرج ولا غضاضة.
إخوتاه ..
…الحديث عن الخلاف الفقهي وتأثيره يجرنا لقضية "التعصب" كسبب رئيس لحدة الاختلاف، والتعصب دلالة عن جهل وغياب لآداب العلم، وأغلب من يخوض في ذلك أنصاف المتعلمين، وقد مضى قول أهل العلم على أنَّ التعصب للمذاهب والمشايخ وتفضيل بعضهم على بعض، والدعوى لذلك والموالاة عليه من دعوى الجاهلية، فكل من عَدَل عن الكتاب والسنة لرأى إنسان كائنًا من كان فهو على ضلال مبين، إذ الواجب على كل مسلم أن يمحض قصده لطاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فلا ينتصر لشخص انتصاراً مطلقاً إلا لشخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا لطائفة انتصارًا عامًا إلا لأصحابه رضى الله عنهم، فإن الهدى يدور معهم حيث داروا.
إخوتاه ..
…قال - صلى الله عليه وسلم - حين بعث أبى بن كعب ومعاذ بن جبل إلى اليمن «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا»
…والنهي هنا ليس متوجهًا إلى حقيقة الشيء بمعنى إبطال الخلاف، كيف والخلاف أمر واقع، بل المراد المآل والناتج عن اختلاف وجهات النظر في المسائل الاجتهادية التي لا تنضبط تحت نص قاطع في ثبوته ودلالته على عين القضية المطروحة، فهنا ينبغي أن يقدم "وحدة العمل" على "اختلاف الرأي" فلا يصر كل منهما على رأيه ويصعد الخلاف،
بل يحاول كل واحد أن يأتلف مع رأى أخيه ما استطاع.
…وهذا الدرس النبوي ينبغي ألا يغيب عن أعيننا " تطاوعا ولا تختلفا " فنحاول أن نتطاوع فيما بيننا، وتظل دائرة الخلافات محدودة بحدود الأخوة الإيمانية بعيدًا عن الأهواء والذاتيات، نحاول لمَّ الشمل وجمع الكلمة منضبطين بالمنهج النبوي، مستشعرين عزة الدين حتى لا نقع في فخ التنازلات وصولاً للهدف، فتبرر الغايةُ الوسيلة، فتحدث الأخطاء الشرعية.
إخوتاه ..
…إنها دعوة من القلب لكل غيور على دين الله، لكل من تهفو نفسه لتطبيق شرع الله أقول لكم جميعًا معاشر أهل الدين: لا توسعوا الشُّقة، كونوا عباد الله إخوانًا، لا ينبغي أن تطفو الخلافات بين الدعاة وأهل الإيمان فتنتشر بين الجميع، إننا قد نقع في الصد عن سبيل الله من حيث لا ندرى تحت معتقدات إظهار الحق، ليكن هذا الخلاف في أضيق صورة، وليظهر كل واحد ما اقتضاه اجتهاده دون التعرض لأشخاص بذواتهم، وليعمل على تحجيم دائرة الخلاف ما استطاع، لا سيما وأنَّ في الأمر سعة والخلاف فيه وارد، ورأى صاحبي خطأ يحتمل الصواب ورأيي صواب يحتمل الخطأ، ولا غضاضة ولا مشاحنة، بل إخوة على درب واحد متحابين في الله. اللهمَّ إنا نعوذ بك من الشَّقاق، اللهم اجمعنا على الحب والوفاق، اللهمَّ اجعلنا متحابين في جلالك، يا حى يا قيوم برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.
- التصنيف:
- المصدر: