حقيقة الدنيا والمذموم منها والمحمود
قال رسول اللَّه -ﷺ-: «أعذر اللَّه إلى امرئ أخّر أجله حتى بلغ ستين سنة». قوله: «أعذر اللَّه»: الإعذار إزالة العذر، والمعنى أنه لم يبق له اعتذار كأن يقول: لو مُدّ لي في الأجل لفعلت ما أُمرت به، يقال أعذر إليه إذا بلغه أقصى الغاية في العذر ومكنه منه.
قد سمع خلق كثير ذم الدنيا مطلقًا، فاعتقدوا أن الإشارة إلى هذه الموجودات التي خلقت للمنافع، فأعرضوا عما يصلحهم من المطاعم والمشارب.
وقد وضع اللَّه في الطباع توقان النفس إلى ما يصلحها، فكلما تاقت منعوها، ظنًا منهم أن هذا هو الزهد المراد، وجهلاً بحقوق النفس، وعلى هذا أكثر المتزهدين، وإنما فعلوا ذلك لقلة العلم، ونحن نصدع بالحق من غير محاباة فنقول:
اعلم: أن الدنيا عبارة عن أعيان موجودة للإنسان، فيها حظ، وهي الأرض وما عليها، فإن الأرض مسكن الآدمي، وما عليها ملبس ومطعم ومشرب ومنكح، وكل ذلك علف لراحلة بدنه السائر إلى اللَّه عز وجل، فإنه لا يبقى إلا بهذه المصالح، كما لا تبقى الناقة في طريق الحج إلا بما يصلحها، فمن تناول منها ما يصلحه على الوجه المأمور به مدح، ومن أخذ منها فوق الحاجة يكتنف الشره وقع في الذم، فإنه ليس للشره في تناول الدنيا وجه؛ لأنه يخرج عن النفع إلى الأذى، ويشغل عن طلب الآخرة فيفوت المقصود، ويصير بمثابة من أقبل يعلف الناقة، ويرد لها الماء، ويغير عليها ألوان الثياب، وينسى أن الرفقة قد سارت، فإنه يبقى في البادية فريسة للسباع هو وناقته.
ولا وجه أيضًا للتقصير في تناول الحاجة، لأن الناقة لا تقوى على السير إلا بتناول ما يصلحها، فالطريق السليم هي الوسطى، وهي أن يأخذ من الدنيا قدر ما يحتاج إليه من الزاد للسلوك، وإن كان مشتهى، فإن إعطاء النفس ما تشتهيه عون لها وقضاء لحقها.
وقد كان سفيان الثوري يأكل في أوقات من طيب الطعام، ويحمل معه في السفر الفالوذج.
وكان إبراهيم بن أدهم يأكل من الطيبات في بعض الأوقات، ويقول: إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال، وإذا فقدنا صبرنا صبر الرجال.
ولينظر في سيرة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وصحابته، فإنهم ما كان لهم إفراط في تناول الدنيا، ولا تفريط في حقوق النفس.
وينبغي أن يتلمح حظ النفس في المشتهى، فإن كان في حظها حفظها وما يقيمها ويصلحها وينشطها للخير، فلا يمنعها منه، وإن كان حظها مجرد شهوة ليست متعلقة بمصالحها المذكورة فذلك حظ مذموم، والزهد فيه يكون. اهـ من «مختصر منهاج القاصدين».
فائدة:
قال ابن السماك الواعظ: هب الدنيا في يديك، ومثلها ضُم إليك، والمشرق والمغرب جاءا إليك، فجاءك الموت ماذا في يديك؟!
خاتمة:
عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعذر اللَّه إلى امرئ أخّر أجله حتى بلغ ستين سنة». رواه البخاري.
قال الحافظ ابن حجر رحمه اللَّه تعالى في «الفتح» (ج11 ص 244):
قوله: «أعذر اللَّه»: الإعذار إزالة العذر، والمعنى أنه لم يبق له اعتذار كأن يقول: لو مُدّ لي في الأجل لفعلت ما أُمرت به، يقال أعذر إليه إذا بلغه أقصى الغاية في العذر ومكنه منه.
وإذا لم يكن له عذر في ترك الطاعة مع تمكنه منها بالعمر الذي حصل له فلا ينبغي له حينئذ إلا الاستغفار والطاعة والإقبال على الآخرة بالكلية، والمعنى أن اللَّه لم يترك للعبد سببًا في الاعتذار يتمسك به. والحاصل أنه لا يعاقب إلا بعد حجة.
قوله (أخر أجله): يعني أطاله (حتى بلغه ستين سنة) وفي رواية معمر: «لقد أعذر اللَّه إلى عبد أحياه حتى يبلغ ستين سنة أو سبعين سنة، لقد أعذر اللَّه إليه، لقد أعذر اللَّه إليه».
قال ابن بطال:
إنما كانت الستون حدًا لهذا لأنها قريبة من المعترك، وهي سن الإنابة والخشوع وترقب المنية، فهذا إعذار بعد إعذار لطفًا من اللَّه بعباده حتى نقلهم من حالة الجهل إلى حالة العلم، ثم أعذر إليهم فلم يعاقبهم إلا بعد الحجج الواضحة، وإن كانوا فُطروا على حب الدنيا وطول الأمل، لكنهم أمروا بمجاهدة النفس في ذلك ليمتثلوا ما أمروا به من الطاعة، وينزجروا عما نهوا عنه من المعصية. وفي الحديث إشارة إلى أن استكمال الستين مظنة لانقضاء الأجل.
وأصرح من ذلك ما أخرجه الترمذي بسند حسن إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رفعه: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك».
قال بعض الحكماء: الأسنان أربعة سن الطفولية، ثم الشباب، ثم الكهولة، ثم الشيخوخة وهي آخر الأسنان، وغالب ما يكون ما بين الستين والسبعين فحينئذ يظهر ضعف القوة بالنقص والانحطاط، فينبغي له الإقبال على الآخرة بالكلية لاستحالة أن يرجع إلى الحالة الأولى من النشاط والقوة. وقد استنبط منه بعض الشافعية أن من استكمل ستين فلم يحج مع القدرة فإنه يكون مقصرًا ويأثم إن مات قبل أن يحج، بخلاف ما دون ذلك.
- التصنيف:
- المصدر: