متاهات الغرائز

منذ 2019-11-23

مصداق هذا القول ما عليه الرهبنة الكاثوليكية و الأرثوذكسية من تقييد للغريزة الجنسية والمطالب الجسدية، والتي أفضت بالقساوسة إلى حمى جنسية و فضائح أخلاقية مقيتة.

بنداود رضواني.
حضيت الغريزة منذ أن وجدت بمكانة مركزية في تركيبة الإنسان، و شكلت مصدرا هاما للعديد من الممارسات التي تنشأ بسبب مثيرات و منبهات خارجية لا تربطها أية علاقة بالعقل.
ومع ذلك، فتوصيفها يظل غاية في التعقيد والإبهام، أولا: من جهة خفاءها وضمور كينونتها مثل الروح والنفس والفطرة...، و ثانيا: من جهة احتلالها أحيازا رمادية في الخريطة التكوينية للإنسان و باقي الكائنات الحية....
لذا يبقى شأن الغريزة شأنا محاطا بالعديد من الأسرار و مسيجا بالكثير من الألغاز!!!...

و كلمة الغريزة هاته قد جاءت لغة من الغرز، لذا يقال: غرَزتِ الجرادةُ : أثبتت ذنَبَها في الأرض لتبيض، و غرَز الإبرةَ في الثّوب : أدخلها فيه وأثبتها. و الغَرْزُ : المغروزُ في الارض.

أما في الإصطلاح فيعبر بها عن تلك النفسية الشديدة التجدر في كيان الإنسان، والمتمثلة في التعلق بالحياة و الرغبة في التملك و الولع بالمواقعة و حب قهر الغير و السيطرة عليه...
و مما تستبطنه لفظة " الوحي " من المعاني في القرآن الكريم، معنى الإلهام الغريزي، كما في قول الله تعالى {وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ}  سورةالنحل/68. وهذا المعنى تتقاسمه عموم الكائنات الحية، بل في بعض الدراسات الإحيائية نصادف في سلم الإرتقاء الغريزي تفوقا لكوكبة من الحشرات على الجنس البشري !!!.. وإن كان يبدو - هذا الأخير - الأكثر تطورا في مراتب المخلوقات الحية.... عموما و إجمالا.
فنسبية هذا التفوق أدت بالبعض إلى ربط الغريزة بالحياة البُدائيَّة قوة وضعفا، ظهورا و ضمورا..، من خلال التوسل ببعض الدراسات الأنثروبولوجية الحديثة والتي تفيد: امتلاك المجموعات البشرية البُدائيَّة فعلا غريزيا قويا أكثر من الجماعات البشرية المتحضرة...

لكن الحالة التي عليها الإنسان اليوم لا تذعن لمثل هذه الدراسات و لا تسلم لخلاصاتها، لأن متاهات الغرائز في ظل سيطرة الحضارة المادية صارت أكثر التواء وامتدادا و أشد إطباقا على الإنسانية من ذي قبل.
لذا فمن االحقائق التي لا يجدر إخفاؤها هي أن القرن العشرين و المشهود له بالإنجازات العلمية والكشوف العقلية الجليلة، و التي توجت ببلوغ القمر، هو القرن نفسه الذي خضعت أحداثه بشكل سافر لغريزة السيطرة والقهر، و استسلمت وقائعه طواعية لسعار العهر والفجور، حتى أضحت هذه الحضارة الأكثر دموية و الأعتى إباحية... في تاريخ البشرية.

و مادام هذا هو شأن إنسان القرن العشرين، فليس من داع - إذن - للإستمرار في ترديد مقولات من قبيل: أن طور البُدائيَّة يقابل طور التحضر. و أن البدائية هي المحضن الأمثل للغرائز !!!..
و الظاهر أن هذه الأخيرة تقبع في حيز آخر سوى حيز البُدائيَّة، وتتفاعل بصورة آخرى مع بيئة مغايرة للبيئة الحشرية والحيوانية.....، و لم لا ؟ فما ذكره جان جاك روسو في مؤلفه "خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر"، إنما يعزز هذا الإفتراض، من أن الإنسان حين عاش في الطبيعة - لعله يقصد عاش على الفطرية - كان محبا للخير ومناوئا للشر بامتياز.

إن حالة التيه الغريزي التي تلُفّ المجتمعات الإسلامية وغيرها...إنما ترتبط حقيقة بالعلاقة الواهنة للنفس الإنسانية بوحي السماء، لا ببدائية الناس أو تحضرهم، ولا بجهلهم أو تعقلهم.... {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}  المائدة/15-16.
و النفس مادامت وعاء للشهوات، و في ذات الوقت محضنا للخير والفضائل ، فإن الغريزة ستظل إثر ذلك خاضعة لتقلبات النفس وأهوائها، تابعة لها في يقظتها وشرودها، و رقيها وانحدارها.....
لذا فتهذيب النفس و تزكيتها هو أولى الأولويات و أزكى المَهَمّات، تهذيب يستهدف الإصغاء الى تعاليم الوحي، و استعادة فطرية الإنسان و الخِلْقَة الأولى التي جبل عليها أبناء آدم، أما و أن تكون المقاربة خلاف ذلك، عبر مصادرة الفعل الغريزي أو تكبيله فسيفضي بالنفس حتما إلى المزيد من التوترات والمنغصات، هذا إن لم يفجرا حربا لا تبقي شيئا من إنسانية الإنسان ولا تذر....
مصداق هذا القول ما عليه الرهبنة الكاثوليكية و الأرثوذكسية من تقييد للغريزة الجنسية والمطالب الجسدية، والتي أفضت بالقساوسة إلى حمى جنسية و فضائح أخلاقية مقيتة.

قال جل جلاله {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ۖ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}   [الحديد /27] .   

و يوما بعد آخر، و أمام هذه الفضائح المتتالية التي تعج بها ردهات الكنائس، يظل السؤال السائد دون إجابة - للأسف - حول أيهما أولى بالتصدي و المواجهة، متاهات الغريزة أم فضائح الرهبنة؟ 

 

بنداود رضواني

حاصل على شهادة الدكتوراة في الفكر الإسلامي ومقارنة الأديان

  • 74
  • 30
  • 4,537

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً