فوائد من كتاب الوابل الصيب (1-4)
إذا أراد الله بعبده خيراً فتح له باباً من أبواب التوبة, والندم, والانكسار, والذل, والافتقار, والاستغاثة به, وصدق اللجأ إليه, ودوام التضرع, والدعاء, والتقرب إليه بما أمكن من الحسنات
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فلذكر الله عز وجل فضائل وفوائد كثيرة, وقد صنف العلامة ابن القيم رحمه الله في ذلك كتاباً, سماه" الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب" ذكر فيه أكثر من سبعين فائدة للذكر وذكر فوائد ولطائف في فنون متعددة وقد يسّر الله الكريم لي فانتقيتُ شيئاً منها أسأل الله أن ينفع بها ويبارك فيها
محبطات الأعمال ومفسداتها:
محبطات الأعمال ومفسداتُها أكثر من أن تحصر,...فالرياء– وإن دقَّ– محبط للعمل, وهو أبواب كثيرة لا تحصر, وكون العمل غير مقيد باتباع السنة أيضاً موجب لكونه باطلاً, والمنُّ به على الله تعالى بقلبه مُفسد له, وكذلك المنُّ بالصدقة والمعروف والبر والإحسان والصلة مُفسد لها كما قال سبحانه وتعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ [البقرة:264]
وأكثر الناس ما عندهم خبر من السيئات التي تحبط الحسنات وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } [الحجرات:2] فحذر سبحانه المؤمنين من حبوط أعمالهم بالجهر لرسول صلى الله عليه وسلم كما يجهر بعضهم لبعض, وليس هذا بردّة, بل معصية يحبط بها العمل وصاحبها لا يشعر
فما الظن بمن قدم على قول الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه وطريقه قول غيره وهديه وطريقه ؟ أليس هذا قد حبط عمله وهو لا يشعر ؟
استقامة القلب:
استقامة القلب بشيئين:
أحدهما: أن تكون محبة الله تعالى تتقدم عنده على جميع المحاب فإذا تعارض حب الله تعالى وحب غيره سبق حُبُّ الله تعالى حبَّ ما سواه..وما أسهل هذا بالدعوى, وما أصعبه بالفعل! وما أكثر ما يُقدم العبد ما يحبه هو ويهواه أو يحبه كبيره.أو شيخه أو أهله على ما يحبه الله تعالى فهذا لم تتقدم محبة الله تعالى في قلبه جميع المحاب.وسنة الله تعالى فيمن هذا شنه أن يُنكد عليه محابه ويُنغصها عليه, فلا ينال شيئاً منها إلا بنكد وتنغيص, جزاءً له على إيثاره هواه وهوى من يعظمه من الخلق أو يحبه على محبة الله تعالى...قد قضى الله عز وجل قضاءً لا يُردّ ولا يُدفع, أن من أحب شيئاً سواه عذبه به ولا بد, وأن من خاف غيره سلطه عليه, وأن من اشتغل بشيء غيره كان شؤماً عليه, ومن آثر غيره لم يُبارك له فيه, ومن أرضى غيره بسخطه أسخطه عليه ولا بد
الأمر الثاني الذي يستقيم به القلب: تعظيم الأمر والنهي وهو ناشئ عن تعظيم الآمر الناهي...فإن الرجل قد يتعاطى فعل الأمر لنظر الخلق, وطلب المنزلة والجاه عندهم, ويتقى المناهي خشية سقوطه من أعينهم, وخشية العقوبات الدنيوية..فهذا ليس فعله وتركه صادراً عن تعظيم الأمر والنهي, ولا عن تعظيم الآمر الناهي.
علامة التعظيم للأوامر:
رعاية أوقاتها وحدودها, والتفتيش على أركانها وواجباتها وكمالها, والحرص على تحسينها, وفعلها في أوقاتها, والمسارعة إليها عند وجوبها, والحزن والكآبة والأسف عند فوات حق من حقوقها, كمن يحزن على فوت الجماعة, ويعلم أنه لو تُقُبلت منه صلاته منفرداً, فإنه قد فاته سبعة وعشرون ضعفاً.
علامات تعظيم المناهي:
الحرص على التباعد عن مظانها وأسبابها وما يدعو إليها, ومجانبة كل وسيلة تُقربُ منها كمن يهرب من الأماكن التي فيها الصور التي تقع بها الفتنة خشية الافتتان بها, وأن يدع ما لا بأس به حذراً مما به البأس, وأن يجانب الفضول في المباحات خشية الوقوع في المكروهات, ومجانبة من يجاهر بارتكابها ويحسنها ويدعو إليها, ويتهاون بها, ولا يبالي ما ركب منها, فإن مخالطة مثل هذا داعية إلى سخط الله تعالى وغضبه, ولا يخالطه إلا من سقط من قلبه تعظيم الله تعالى وحرماته.
ومن علامات تعظيم النهي: أن يغضب لله عز وجل إذا انتهكت محارمه, وأن يجد في قلبه حُزناً وكسرةً إذا عُصى الله تعالى في أرضه, ولم يطع بإقامة حدوده وأوامره, ولم يستطيع هو أن يُغير ذلك.
ومن علامات تعظيم الأمر والنهي: أن لا يسترسل مع الرخصة إلى حدٍّ يكون صاحبه جافياً غير مستقيم على المنهج الوسط.
ومن علامات تعظيم الأمر والنهي: أن..يُسلم لأمر الله تعالى وحكمه, ممتثلاً ما أمر به, سواء ظهرت له حكمة الشرع في أمره ونهيه أو لو تظهر. فإن ظهرت له حكمة الشرع في أمره ونهيه حمله ذلك على المزيد الانقياد بالبذل والتسليم لأمر الله.
من أراد الله به خيراً:
إذا أراد الله بعبده خيراً فتح له باباً من أبواب التوبة, والندم, والانكسار, والذل, والافتقار, والاستغاثة به, وصدق اللجأ إليه, ودوام التضرع, والدعاء, والتقرب إليه بما أمكن من الحسنات....ورؤية عيوب نفسه, وجهلها, ظلمها, وعدوانها, ومشاهدة فضل ربه, وإحسانه, ورحمته, وجوده, وبره, وغناه, وحمده.
ما أمر الله عز وجل بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما تفريط, وإما إفراط:
ما أمر الله عز وجل بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما تقصير وتفريط, وإما إفراط وغلو, فلا يبالي بما ظفر من العبد من الخُطتين, فإنه يأتي إلى قلب العبد فيُشأمُه, فإن وجد فيه تقصيراً وفتوراً وتوانياً وترخيصاً أخذه من هذه الخطة, فثبطه وأقعده, وضربه بالكسل والتواني والفتور, وفتح له باب التأويلات والرجاء وغير ذلك, حتى ربما ترك العبد المأمور جملة.
وإن وجد عنده حذراً وجداً, وتشميراً ونهضة, وأيس أن يأخذه من هذا الباب أمره بالاجتهاد الزائد,وسوَّل له أن هذا لا يكفيك, وهمتك فوق هذا, وينبغي لك أن تزيد على العاملين, وأن لا ترقد إذا رقدوا, ولا تفطر إذا أفطروا, وأن لا تفتر إذا فتروا,...فيحمله على الغلو والمجاوزة وتعدي الصراط المستقيم, كما يحملُ الأول على التقصير دونه, وأن لا يقربه.
ومقصوده من الرجلين إخراجهما عن الصراط المستقيم, هذا بأن لا يقربه ولا يدنو منه, وهذا بأن يتجاوزه ويتعداه.
وقد فتن بهذا أكثر الخلق, ولا يُنجي من ذلك إلا علم راسخ, وإيمان, وقُوَّة على محاربته, ولزوم الوسط, والله المستعان.
- التصنيف: