الحب في الله ( فضله وأسبابه )
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك))[32].
كتب/ صلاح عامر
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم.
قال - تعالى -: ﴿ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } ﴾ [البقرة: 165 - 167].
وقال - تعالى -: ﴿ { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} ﴾ [المائدة: 55، 56].
وقال - تعالى -: ﴿ {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } ﴾ [الأنفال: 62، 63].
وقال - تعالى -: ﴿ {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} ﴾ [الفتح: 29].
وقال - تعالى -: ﴿ { وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } ﴾ [الحشر: 9، 10].
وعن أنسٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( «ثلاث مَن كنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: مَن كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار» ))[1].
وعن أنس قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( «لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين» ))[2].
وعن عبدالله بن هشام قال: «كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو آخذٌ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم» -: «((لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك))، فقال له عمر: فإنه الآن، والله لأنت أحب إليَّ من نفسي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الآن يا عمر))» [3].
عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (( «مَن أحب - وقال هاشم: مَن سرَّه - أن يجد طعم الإيمان، فليحب المرء لا يحبه إلا لله - عز وجل» ))[4].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( «(سبعة يظلهم الله - تعالى - في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عدل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وتفرَّقا عليه، ورجل دَعَته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه» ))[5].
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( «(إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي، يوم لا ظل إلا ظلي» ))[6].
وعن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (( «قال الله - عز وجل -: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور، يغبطهم النبيون والشهداء» ))[7].
وعن أبي إدريس الخولاني قال: دخلت مسجد دمشق الشام، فإذا أنا بفتًى برَّاق الثنايا، وإذا الناس حوله، إذا اختلفوا في شيء، أسندوه إليه وصدروا عن رأيه، فسألت عنه، فقيل: هذا معاذ بن جبل، فلما كان الغد هجَّرت فوجدته قد سبقني بالهجير - وقال إسحاق: بالتهجير - ووجدته يصلي، فانتظرته حتى إذا قضى صلاته، جئته من قِبَل وجهه، فسلَّمت عليه، فقلت له: والله إني لأحبك لله - عز وجل - فقال: ألله؟! فقلت: ألله، فقال: ألله؟! فقلت: ألله، فأخذ بحبوة ردائي فجبذني إليه، وقال: أبشرْ؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (( «قال الله - عز وجل -: وجبت محبتي للمتحابين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين في، والمتباذلين في» ))[8].
وعن أنس بن مالك قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال: (( «وما أعددتَ للساعة؟))، قال: حبَّ اللهِ ورسوله، قال: ((فإنك مع من أحببتَ))[9]، قال أنس: فما فرِحْنا بعد الإسلام فرحًا أشد من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فإنك مع من أحببت))، قال أنس: فأنا أحب الله ورسوله، وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكون معهم، وإن لم أعمل بأعمالهم» .
وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( «أن رجلاً زار أخًا له في قرية أخرى، فأرصد الله له على مدرجته ملكًا، فلما أتى عليه، قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمةٍ تَرُبُّها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله - عز وجل، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه» ))[10].
وعن عمر بن الخطاب قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «((إن من عباد الله لأناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى))، قالوا: يا رسول الله، تخبرنا مَن هم؟ قال: ((هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم على نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس))» وقرأ هذه الآية: ﴿ {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } ﴾ [يونس: 62][11].
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( «ما تحابَّا الرجلان إلا كان أفضلهما أشدهما حبًّا لصاحبه» ))[12].
وعن عبدالله بن الصامت عن أبي ذر، قال: قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟ قال: ((تلك عاجل بشرى المؤمن))[13]، وفي رواية: أرأيت الرجل يعمل العمل يحبه الناس عليه؟ قال: ((تلك عاجل بشرى المؤمن))» [14].
وعن أبي أمامة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (( «مَن أحبَّ لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان» ))[15].
وعن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( «(لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» ))[16].
وعن البراء بن عازب قال: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (( «أتدرون أي عرى الإيمان أوثق؟))، قلنا: الصلاة، قال: ((الصلاة حسنة، وليست بذلك))، قلنا: الصيام، فقال مثل ذلك، حتى ذكرنا الجهاد، فقال مثل ذلك، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أوثق عرى الإيمان الحب في الله - عز وجل - والبُغْض في الله» ))[17].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (( «أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله والبغض في الله - عز وجل» ))[18].
وعن ابن عمر قال: " «فإنك لا تنال الولاية إلا بذلك، ولا تجد طعم الإيمان حتى تكون كذلك» ".
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "من أحب في الله وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تُنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبدٌ طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه، حتى يكون كذلك، وقد صارت جميع مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئًا"[19].
ويقول الإمام ابن تيمية - رحمه الله -:
"بل قد قال - تعالى -: ﴿ {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } ﴾ [التوبة: 24]، فانظر إلى هذا الوعيد الشديد الذي قد توعَّد الله به مَن كان أهلُه وماله أحبَّ إليه من الله ورسوله وجهاد في سبيله، فعلم أنه يجب أن يكون الله ورسوله والجهاد في سبيله أحبَّ إلى المؤمن من الأهل والمال والمساكن والمتاجر والأصحاب والإخوان، وإلا لم يكن مؤمنًا حقًّا.
ومثل هذا ما في الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( «لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرءَ لا يحبه إلا لله، وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع في الكفر، وحتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» ))، وهذا لفظ البخاري.
فأخبر أنه لا يجد أحدٌ حلاوة الإيمان إلا بهذه المحبات الثلاث:
أحدها: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه من سواهما، وهذا من أصول الإيمان المفروضة التي لا يكون العبد مؤمنًا بدونها.
الثاني: أن يحب العبدَ لا يحبه إلا لله، وهذا من لوازم الأول.
والثالث: أن يكون إلقاؤه في النار أحب إليه من الرجوع إلى الكفر.
وكذلك التائب من الذنوب من أقوى علامات صدقِه في التوبة هذه الخصال: محبة الله ورسوله، ومحبة المؤمنين فيه، وإن كانت متعلقة بالأعيان ليست من أفعالنا كالإرادة المتعلقة بأفعالنا، فهي مستلزمة لذلك، فإن مَن كان الله ورسوله أحب إليه من نفسه وأهله وماله، لا بد أن يريد من العمل ما تقتضيه هذه المحبة، مثل إرادته نصر الله ورسوله ودينه، والتقريب إلى الله ورسوله، ومثل بغضه لمن يعادي الله ورسوله.
ومن هذا الباب ما استفاض عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصحاح من حديث ابن مسعود وأبي موسى وأنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( «المرء مع مَن أحب» ))، وفي رواية: "الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم"؛ أي: ولما يعمل بأعمالهم، فقال: ((المرء مع من أحب))، قال أنس: فما فرح المسلمون بشيء بعد الإسلام فرحهم بهذا الحديث، فأنا أحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر، وأرجو أن يجعلني الله معهم، وإن لم أعمل عملهم.
وهذا الحديث حق، فإن كون المحب مع المحبوب أمر فطري لا يكون غير ذلك، وكونه معه هو على محبته إياه؛ فإن كانت المحبة متوسطة أو قريبًا من ذلك، كان معه بحسب ذلك، وإن كانت المحبة كاملة، كان معه كذلك، والمحبة الكاملة تجب معها الموافقة للمحبوب في محابه، إذا كان المحب قادرًا عليها، فحيث تخلَّفت الموافقة مع القدرة يكون قد نقص من المحبة بقدر ذلك، وإن كانت موجودة.
وحب الشيء وإرادته يستلزم بغضَ ضده وكراهته، مع العلم بالتضاد؛ ولهذا قال - تعالى -: ﴿ {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } ﴾ [المجادلة: 22]، فإن الإيمان بالله يستلزم مودته ومودة رسوله، وذلك يناقض مودَّة مَن حادَّ الله ورسوله، وما ناقض الإيمان فإنه يستلزم الذم والعقاب؛ لأجل عدم الإيمان، فإن ما ناقض الإيمان كالشك والإعراض وردة القلب، وبغض الله ورسوله، يستلزم الذم والعقاب؛ لكونه تضمن ترك المأمور مما أمر الله به رسوله، فاستحق تاركه الذم والعقاب، وأعظم الواجبات إيمان القلب، فما ناقَضَه استلزم الذم والعقاب؛ لتركه هذا الواجب، بخلاف ما استحق الذم لكونه منهيًّا عنه كالفواحش والظلم، فإن هذا هو الذي يتكلم في الهم به وقصده، إذا كان هذا لا يناقض أصل الإيمان، وإن كان يناقض كماله، بل نفس فعل الطاعات يتضمن ترك المعاصي، ونفس ترك المعاصي يتضمن فعل الطاعات؛ ولهذا كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فالصلاة تضمنت شيئين:
أحدهما: نهيها عن الذنوب.
والثاني: تضمنها ذكر الله، وهو أكبر الأمرين، فما فيها من ذكر الله أكبر من كونها ناهية عن الفحشاء والمنكر، ولبسط هذا موضع آخر.
والمقصود هنا أن المحبة التامة لله ورسوله تستلزم وجود محبوباته؛ ولهذا جاء في الحديث الذي في الترمذي: (( «مَن أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان» ))، فإنه إذا كان حبه لله، وبغضه لله، وهما عمل قلبه، وعطاؤه لله، ومنعه لله، وهما عمل بدنه، دل على كمال محبته لله، ودل ذلك على كمال الإيمان؛ وذلك أن كمال الإيمان أن يكون الدين كله لله، وذلك عبادة الله وحده لا شريك له، والعبادة تتضمن كمال الحب وكمال الذل، والحب مبدأ جميع الحركات الإرادية، ولا بد لكل حي من حب وبغض، فإذا كانت محبته لمن يحبه الله، وبغضه لمن يبغضه الله، دل ذلك على صحة الإيمان في قلبه، لكن قد يقوَى ذلك وقد يضعف بما يعارضه من شهوات النفس وأهوائها، الذي يظهر في بذل المال الذي هو مادة النفس، فإذا كان حبه لله، وعطاؤه لله، ومنعه لله، دل على كمال الإيمان باطنًا وظاهرًا.
وأصل الشرك في المشركين الذين فرَّقوا دينهم وكانوا شيعًا، إنما هو اتخاذ أنداد يحبونه كحب الله، كما قال - تعالى -: ﴿ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} ﴾[البقرة: 165]، ومَن كان حبه لله وبغضه لله، لا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، فهذه حال السابقين من أولياء الله، كما روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يقول الله: مَن عادى لي وليًّا، فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبِي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله تردُّدي عن قبض نفس عبدي المؤمن؛ يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه» .
فهؤلاء الذين أحبوا الله محبة كاملة، تقربوا بما يحبه من النوافل، بعد تقربهم بما يحبه من الفرائض، أحبهم الله محبة كاملة حتى بلغوا ما بلغوه، وصار أحدهم يدرك بالله، ويتحرك بالله، بحيث إن الله يجيب مسألته، ويعيذه مما استعاذ منه"[20].
ويقول رحمه الله - تعالى - في مجموع الفتاوى:
"وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك؛ فإن الله - سبحانه - بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، فيكون الحب لأوليائه، والبغض لأعدائه، والإكرام لأوليائه، والإهانة لأعدائه، والثواب لأوليائه، والعقاب لأعدائه.
وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، ومعصية وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطي من بيت المال ما يكفيه لحاجته.
هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومَن وافقهم عليه، فلم يجعلوا الناس إلا مستحقًّا للثواب فقط، وإلا مستحقًّا للعقاب فقط، وأهل السنة يقولون: إن الله يعذب بالنار من أهل الكبائر مَن يعذبه، ثم يخرجهم منها بشفاعة مَن يأذن له في الشفاعة بفضل رحمته، كما استفاضت بذلك السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والله - سبحانه وتعالى - أعلم، وصلِّ اللهم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين".
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
"مَن أحب إنسانًا لكونه يعطيه، فما أحب إلا العطاء، ومَن قال: إنه يحب من يعطيه لله، فهذا كذب، ومحال، وزور من القول، وكذلك مَن أحب إنسانًا لكونه ينصره، إنما أحب النصر لا الناصر، وهذا كله من اتباع ما تهوَى الأنفس، فإنه لم يحب في الحقيقة إلا ما يصل إليه من جلب منفعة أو دفع مضرة، فهو إنما أحب تلك المنفعة ودفع المضرة، وليس هذا حبًّا لله ولا لذات المحبوب، وعلى هذا تجري عامة محبة الخلق بعضهم مع بعض، لا يثابون عليه في الآخرة ولا ينفعهم، بل ربما أدى هذا للنفاق والمداهنة، فكانوا في الآخرة من الأخلاَّء الذين بعضهم لبعض عدو إلا المتقين، وإنما ينفعهم في الآخرة الحب في الله ولله وحده، وأما من يرجو النفع والضر من شخص، ثم يزعم أنه يحبه لله، فهذا من دسائس النفوس ونفاق الأقوال"[21].
ويقول الشيخ عبدالرحمن السعدي في فتاواه:
"إن الله عقد الأخوة والموالاة والمحبة بين المؤمنين كلهم، ونهى عن موالاة الكافرين كلهم من يهود، ونصارى، ومجوس، ومشركين، وملحدين، ومارقين، وغيرهم ممن ثبت في الكتاب والسنة الحكم بكفرهم، وهذا الأصل متفق عليه بين المسلمين.
وكل مؤمن موحِّد تارك لجميع المكفِّرات الشرعية، فإنه تجب محبته وموالاته ونصرته، وكل مَن كان بخلاف ذلك، فإنه يجب التقرب إلى الله ببغضه ومعاداته، وجهاده باللسان واليد بحسب القدرة، فالولاء والبراء تابع للحب والبغض، والحب والبغض هو الأصل، وأصل الإيمان أن تحب في الله أنبياءه وأتباعَهم، وأن تبغض في الله أعداءه وأعداء رسله"[22].
وسئل ابن باز في فتاوى نور على الدرب:
"علمنا بأن من أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، فما معنى الحب في الله، وما معنى البغض في الله؟
الحب في الله أن تحب من أجل الله - تبارك وتعالى - لأنك رأيتَه ذا تقوى وإيمان فتحبه في الله، وتبغض في الله؛ لأنك رأيته كافرًا عاصيًا لله فتبغضه في الله، أو عاصيًا وإن كان مسلمًا فتبغضه بقدر ما عنده من المعاصي، هكذا المؤمن يتسع قلبه لهذا وهذا، يحب في الله أهل الإيمان والتقوى، ويبغض في الله أهل الكفر والشرور والمعاصي، ويكون قلبه متسِعًا لهذا وهذا، وإذا كان الرجل فيه خير وشر - كالمسلم العاصي - أحبه من أجل إسلامه، وأبغضه من أجل ما عنده من المعاصي، فيكون فيه الأمران الشعبتان: شعبة الحب والبغض، فأهل الإيمان وأهل الاستقامة يحبهم حبًّا كاملاً، وأهل الكفر يبغضهم بغضًا كاملاً، وصاحب الشائبتين - صاحب المعاصي - يحبه على قدر ما عنده من الإيمان والإسلام، ويبغضه على قدر ما عنده من المعاصي والمخالفات"[23].
قال الشيخ العلامة سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب - رحمة الله عليهم -:
"فهل يتم الدين أو يقام عَلَم الجهاد أو علم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا بالحب في الله والبغض في الله، والمعاداة في الله والموالاة في الله، ولو كان الناس متفقين على طريقة واحدة، ومحبة من غير عداوة ولا بغضاء، لم يكن فرقان بين الحق والباطل، ولا بين المؤمنين والكفار، ولا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان"[24].
وقال أبو الوفاء بن عقيل (513هـ) - رحمه الله -:
"إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان، فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك؛ وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة".
إفشاء السلام:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( «(لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» ))[25].
باب قبول الهدية:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( «تهادوا تحابوا» ))[26].
وعن ثابت قال: كان أنس - رضي الله عنه - يقول: "يا بَنِي، تباذلوا بينكم؛ فإنه أود لما بينكم"[27].
إخبار المحب لمن يحب:
عن المقدام بن مَعْد يكرب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( «إذا أحب أحدكم أخاه، فليُعلِمْه إياه» ))[28].
وفي رواية: ((إذا أحب أحدكم أخاه في الله، فليعلمه؛ فإنه أبقى في الألفة، وأثبت في المودة))[29].
وعن معاذ بن جبل قال: أخذ بيدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إني لأحبك يا معاذ فقلت: وأنا أحبك يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فلا تَدَع أن تقول في كل صلاة: ربِّ، أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك))» [30].
عن أنس بن مالك «أن رجلاً كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فمر به رجل، فقال: يا رسول الله، إني لأحب هذا، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أعلَمته؟))، قال: لا، قال: ((أعلِمْه))، قال: فلحقه، فقال: إني أحبك في الله، فقال: أحبك الذي أحببتني له» [31].
الزهد فيما في أيدي الناس:
عن سهل بن سعد الساعدي قال: «أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ، فقال: يا رسول الله، دلَّني على عمل إذا أنا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك))» [32].
دعاء العبد بسؤال الله - تعالى - أن يحب الله وأهل محبته ومحبة العمل الذي يقرب إلى محبته:
عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - «قال: احتبس عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات غداة عن صلاة الصبح، حتى كدنا نتراءى عين الشمس، فخرج سريعًا فثوب بالصلاة، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتجوَّز في صلاته، فلما سلم دعا بصوته، فقال لنا: ((على مصافِّكم كما أنتم))، ثم انفتل إلينا، ثم قال: ((أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة، أني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي فاستثقلت، فإذا أنا بربي - تبارك وتعالى - في أحسن صورة، فقال: يا محمد، قلتُ: لبيك رب، قال: فيمَ يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري رب، قالها ثلاثًا، قال: فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي، فتجلى لي كل شيء وعَرَفت، فقال: يا محمد، قلت: لبيك رب، قال: فيمَ يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات، قال: ما هن؟ قلت: مشي الأقدام إلى الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء في المكروهات، قال: ثم فيمَ؟ قلت: إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة بالليل والناس نيام، قال: سل، قلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة قوم فتوفَّني غير مفتون، أسألك حبك، وحب مَن يحبك، وحب عمل يقرب إلى حبك))، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنها حق فادرسوها، ثم تعلموها» ))[33].
تم بحمد الله وتوفيقه
[1] البخاري (16)، ومسلم (43) واللفظ له، وأحمد (12021)، والترمذي (2624)، وابن ماجه (4033)، والنسائي (4987).
[2] البخاري (15)، ومسلم (44).
[3] البخاري (6632)، وأحمد في "المسند" (18076).
[4] حسن: رواه أحمد في "المسند" (7954) تعليق شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن، والحاكم في "المستدرك"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (6288)، والصحيحة (2300) من رواية ابن نصر والبزار.
[5] البخاري (660،1423)، ومسلم (1031)، وأحمد في "المسند" (9663)، والترمذي (2388)، والنسائي (5380)، ((اجتمعا عليه)): اجتمعت قلوبهما وأجسادهما على الحب في الله، ((تفرقا)): استمرا على تلك المحبة حتى فرَّق بينهما الموت.
[6] مسلم (2566)، وأحمد في "المسند" (10923)، تعليق شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين، ومالك في "الموطأ" (1500)، والدارمي (2757).
[7] حسن صحيح: رواه الترمذي (2390)، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وصحَّحه الألباني.
[8] صحيح: رواه أحمد في "المسند" (22083)، قال الشيخ شعيب الأرناؤوط: حديث صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير إسحاق بن عيسى، فمن رجال مسلم.
[9] البخاري (6171)، مسلم (2639)، واللفظ له.
[10] مسلم (2567)، وأحمد في "المسند" (9959).
[11] صحيح: رواه أبو داود (3527)، وابن حبان (573) قال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح.
[12] رواه البخاري في "الأدب المفرد" (544)، وابن حبان (566)، وأبو يعلى في "مسنده" (3419)، والطبراني في "الأوسط" (2899)، وصححه الألباني في "الصحيحة " (450).
[13] مسلم (2642)، وأحمد (21417).
[14] صحيح: رواه أحمد في "المسند" (21438)، تعليق شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين، غير عبدالله بن الصامت فمن رجال مسلم، وابن ماجه (4225)، وابن حبان (366).
[15] صحيح: رواه أبو داود (4681)، وصححه الألباني.
[16] البخاري (13)، واللفظ له، ومسلم (45).
[17] حسن: رواه أحمد في المسند، وابن أبي شيبة في مصنفه، والبيهقي في الشعب، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2009).
[18] صحيح: رواه الطبراني في الكبير، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2539) عن ابن عباس - رضي الله عنهما.
[19] رواه الإمام عبدالله بن المبارك في "الزهد" (ص: 120).
[20] مجموع الفتاوى؛ للإمام ابن تيمية (10/750 - 755).
[21] "جامع الرسائل" (2/ 256).
[22] الفتاوى السعدية (1/98).
[23] نقلاً من موقع العلامة ابن باز - رحمه الله.
[24] "أوثق عرى الإيمان" (ص 38).
[25] مسلم (54)، وأحمد في "المسند" (9707)، وأبو داود (5193)، والترمذي (2688)، وابن ماجه (68).
[26] صحيح: رواه البخاري في "الأدب المفرد" (594) صحيح، و"الإرواء" (1601).
[27] صحيح الإسناد موقوف: رواه البخاري في "الأدب المفرد" (595)، وقال الألباني: صحيح الإسناد.
[28] صحيح: رواه أحمد في "المسند" (17171)، والبخاري في "الأدب المفرد" (542)، والترمذي (2392)، قال الشيخ الألباني: صحيح.
[29] حسن: رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الإخوان عن مجاهد مرسلاً، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (280)، والصحيحة (1199).
[30] صحيح: رواه أحمد في "المسند" (22172)، تعليق شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الصحيح، غير عقبة بن مسلم، وأبو داود (1522)، والنسائي (1303)، وصححه الألباني.
[31] صحيح: رواه أحمد في "المسند" (12536)، تعليق شعيب الأرناؤوط: حديث صحيح، وهذا إسناد حسن، وأبو داود (5125)، و"المشكاة" (5017)، قال الشيخ الألباني: حسن.
[32] صحيح: رواه ابن ماجه (4102)، وصححه الألباني.
[33] صحيح: رواه الترمذي (3235) وصححه الألباني.
- التصنيف: