فَاتَّخَذَ خَاتَمًا
فيه بيان المراسلات والكتابات ودورها بين القيادات والرؤساء والشعوب، وهو دلالة عدم العزلة المجتمعية والانفتاح على الآخر من مكانك الذي تعيش فيه
{بسم الله الرحمن الرحيم }
روى البخاري ومسلم عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ: «لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الرُّومِ، قِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لاَ يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي يَدِهِ، وَنَقَشَ فِيهِ «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ»»
** فيه بيان المراسلات والكتابات ودورها بين القيادات والرؤساء والشعوب، وهو دلالة عدم العزلة المجتمعية والانفتاح على الآخر من مكانك الذي تعيش فيه، فما بالك إذا كنت تسكن معه أو تجاوره في أرضه، وهو واجب الساعة بين الدول والمؤسسات والجميع لتوضيح وجهات النظر وطرد الشبهات وتغيير القناعات الخاطئة.
** مسايرة الواقع المعاصر والأعراف الدولية بما لا يتنافى مع مبادئك وأصولك، وممكن أن نطلق عليه «القانون الدولي والأعراف السياسية والمجتمعية»
ففي رواية لهذا الحديث: أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يكتب إلى رهط أو أناس من الأعاجم
وفي رواية لمسلم: «أراد أن يكتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي فقيل له إنهم لا يقبلون كتابا إلا مختوما»
قال شراح الحديث: وفي ذلك أيضا مخالقة الناس بأخلاقهم، واستئلاف العدو بما لا يضر [عمدة القاري]
** وقد كانوا لا يقرءون كتابا إلا مختوما خوفا من كشف أسرارهم، وإشعارا بأن الأحوال المعروضة عليهم ينبغي أن يكون مما لا يطلع عليها غيرهم [عمدة القاري] وقد ورد أن «كرامة الكتاب ختمه»
وعن ابن المقفع: من كتب إلى أخيه كتابًا ولم يختمه فقد استخف به.
** قوله: وَنَقَشَ فِيهِ «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ»
في رواية عن أنس -رضي الله عنه- إن رَسُوْل الله -صلى الله عليه وسلم- اتخذ خاتماً من وَرِق، وله فص حبشي ونقشه: مُحَمَّد رَسُوْل الله.
وفي رواية: ثلاثة أسطر: محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر
قال ابن حجر: لكن لم تكن كتابته على السياق العادي، فإن ضرورة الاحتياج إلى أن يختم به تقتضي أن تكون الأحرف المنقوشة مقلوبة ليخرج الختم مستويا
** في رواية عند البخاري عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: صَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا، قَالَ: (إِنَّا اتَّخَذْنَا خَاتَمًا، وَنَقَشْنَا فِيهِ نَقْشًا، فَلاَ يَنْقُشَنَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ)
أي في حياته، لئلا يقع الالتباس عند الختم به.
وقوله (فلا ينقشن أحد عليه) يظهر أهمية أخذ الاحتياطات والتدابير الاحترازية التي من خلالها يمنع التقليد ويضيع الجهود ويقلل من الأهمية، ويقاس على الختم أمور أخرى كالاسم والإيميل والصفحة الالكترونية، والمنصة الإعلامية ... الخ
** حكم لبس الخاتم
لم يكن لبس الخاتم من عادة العرب، فلما أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكتب إلى الملوك اتخذه
عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -رضي الله عنه- أَنَّهُ رَأَى فِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ يَوْمًا وَاحِدًا ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اضْطَرَبُوا الْخَوَاتِمَ مِنْ وَرِقٍ فَلَبِسُوهَا، فَطَرَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمَهُ، فَطَرَحَ النَّاسُ خَوَاتِمَهُمْ [مسلم]
وفي رواية: أن رَسُوْل الله -صلى الله عليه وسلم- اتخذ خاتماً من وَرِق عَلَى لون من الألوان، وكره أن يتخذ أحد مثله، فلما اتخذوا مثله رماه ثُمَّ بعد أن رموا خواتيمهم اتخذ خاتماً آخر ونقشه ليختم بِهِ.
قال أهل العلم: أنه -صلى الله عليه وسلم- اتخذ الخاتم للزينة فلما تبعه الناس عَلَى ذَلِكَ ألقاه وألقوا بَعْدَ ذَلِكَ خواتيمهم، فلما احتاج إلى ختم اتخذ خاتماً آخر.
وذهب ابن حجر إلى تأويل آخر: هُوَ أنه اتخذ خاتم الذهب للزينة وتتابع الناس فِيْهِ، فوقع تحريمه فطرحه، وَقَالَ: (لا ألبسه أبداً)، فطرح الناس خواتيمهم تبعاً لَهُ، ثُمَّ احتاج إلى الخاتم لأجل الختم، فاتخذه من فضة ونقش فِيْهِ اسمه الكريم، فتبعه الناس أَيْضاً عَلَى تِلْكَ الخواتيم المنقوشة، فرمى بِهِ حَتَّى رمى الناس تِلْكَ الخواتيم المنقوشة حَتَّى لا تفوته مصلحة نقش اسمه بوقوع الاشتراك، فلما عدمت خواتيمهم جميعاً رجع إلى خاتمه الخاص بِهِ فصار يتختم بِهِ.
قال بعض أهل العلم: لجواز لبسه للذكور عندنا شروط: اتحاده وعدم تعدده، ولبسه للسنة لا للمباهاة ونحوها، وأن يكون قدر درهمين فأقل.
** في رواية: وكان فصه منه: وفي مسلم وغيره: (وكان فصه حبشيا).
قال ابن حجر: ولا معارضة بينهما لأنه إما أن يحمل على التعدد، ومعنى قوله "حبشي" أي كان حجرا من بلاد الحبشة، أو على لون الحبشة، أو كان جزعا أو عقيقا، لأن ذلك قد يؤتى به من بلاد الحبشة، ويحتمل أن يكون هو الذي فصه منه، ونسب إلى الحبشة لصفة فيه، إما الصياغة وإما النقش
** في رواية: كَانَ يجعل فصه مِمَّا يلي كفه.
هذا ليعلم أنه لم يلبسه للزينة بل للختم ونحوه
وقال القاضي عياض: ليس في لبسه على هذا الوجه أمر منه -صلى الله عليه وسلم-، لكن الاقتداء به حسن، فيجوز جعل الفص في البطن والظهر، وعمل السلف بالوجهين.
** الخاتم في الخَنصر
أي دون غيره من السبابة والوسطى، فروى مسلم وأبو داود والترمذي من طريق أبي بردة عن أبي موسى عن علي رضي الله عنه قال نهاني رسول الله أن ألبس خاتما في هذه وهذه. يعني السبابة الوسطى.
قال النووي: أجمع المسلمون على أن السنة جعل خاتم الرجل في الخنصر، وأما المرأة فإنها تتخذ خواتيم في أصابع، قالوا: والحكمة في كونه في الخنصر أنه أبعد من الامتهان فيما يتعاطى باليد، لكونه صرفا، ولأنه لا يشغل اليد عما تتناوله من أشغالها بخلاف غيره. أهــ
** التختم في اليمين واليسار
قال في الرسالة: والاختيار مما روي في التختم، التختم في اليسار، لأن تناول الشيء باليمين، فهو يأخذ بيمينه ويجعله في يساره.
وقال في القبس: صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه تختم في يمينه وفي يساره، واستقر الأمر على تختمه باليسار.
زاد السيوطي عن البغوي والبيهقي: والعمل على اليسار، والأول منسوخ.
وقال القرطبي: جعل الخاتم في خنصر اليسرى هو الأفضل والأحسن عند مالك.
وقال الأبي: اختلف المذهب في المستحب منه، والصحيح أنها الشمال.
قال في الفتح: قال ابن أبي حاتم سألت أبا زرعة عن اختلاف الأحاديث في ذلك فقال لا يثبت هذا ولا هذا، ولكن في يمينه أكثر إلى أن قال ويترجح التختم في اليمين مطلقاً لأن اليسار آلة الاستنجاء فيهان الخاتم إذا كان في اليمين عن أن تصيبه النجاسة.
** رحلة الخاتم النبوي
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال اتخذ رسول الله خاتما من ورق وكان في يده ثم كان بعد في يد أبي بكر ثم كان بعد في يد عمر ثم كان بعد في يد عثمان حتى وقع بعد في بئر أريس [حديقة قرب مسجد قباء] نقشه «محمد رسول الله»
وفي رواية: فلما كَانَ عثمان جلس عَلَى بئر أريس فأخرج الخاتم فجعل يعبث بِهِ فسقط فاختلفنا ثلاثة أيام مع عثمان فنَزح البئر فَلَمْ نجده
** وقد حمل كتابه -صلى الله عليه وسلم- إلى قيصر الصحابي دِحية بن خليفة الكلبي -رضي الله عنه- وكان من كبار الصحابة، شهد أحدا وما بعدها من المشاهد، وهو الذي كان ينزل جبريل في صورته، وبعثه رسول الله إلى قيصر في الهدنة مع قريش، وذلك في سنة ست، فآمن به قيصر وأبت بطارقته فلم تؤمن
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
- التصنيف: