مع علي رضي الله عنه - التكافل والإغاثة في عهد علي بن أبي طالب

منذ 2020-11-12

وكان من عدله رضي الله عنه سياسته الرشيدة الصائبة في مال الأمة، أنَّه كان يرى أنَّ المال الذي جاء إلى بيت مال المسلمين إنَّما هو للفقراء

أكمل علي رضي الله عنه وأرضاه مسيرة معلمه صلى الله عليه وسلم وصاحبيه الكرام رضي الله عنهما ومعهم ذي النورين عثمان, في تكافل الفقراء ورعاية المحتاجين ورعاية المجتمع المسلم.

يقول الدكتور راغب السرجاني:

سار الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاهتمام بالفقراء، ورعاية المحتاجين، والحرص على التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع كافة، وبذل ما في وسعهم لإغاثة كلِّ ملهوفٍ أو محتاج، ولا عجب في ذلك؛ فقد تَخَرَّجوا في مدرسة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتعلَّموا من معينه الصافي عمليًّا ونظريًّا، فكانت خلافتهم رحمةً للمسلمين، وأتاحت للمسلمين لونًا من الحياة تعجز الأمم المتحضرة -الآن- عن بلوغه. فما نراه الآن في الغرب هو توفير التأمين الاجتماعي للعاجز عن العمل، وهذا التأمين إنَّما نفقاته من الناس في وقت صحتهم ثم تُرَدُّ عليهم فيما بعد، أمَّا ما وُجِدَ في عهد الخلافة الراشدة فيفوق ذلك؛ فقد كفلت الدولة لكلِّ أفراد المجتمع الإسلامي نصيبًا مقسومًا من بيت المال، من لحظة ولادته إلى وفاته، بل ورعاية أبنائه وأهله من بعده. فمجتمع بمثل هذه القيم والمبادئ حُقَّ له أن يسود العالم.

وقد تميَّز عصر الخلفاء الراشدين بأنَّه أفضل فترات التاريخ الإسلامي بعد عصر النبوَّة؛ حيث تولَّى الحكم كبار الصحابة المقرَّبون من النبيِّ صلى الله عليه وسلم، مِمَّن شَهِدَ لهم بالسابقة والفضل، والبشارة بدخول الجنة، يُعاونهم في إدارة البلاد أعدادٌ من الصحابة العدول، الذين مثَّلوا النخبة في مجالات الفكر، والسياسة، والإدارة، والاقتصاد، والقيادة العسكرية.

خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه

شهدت خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه العديد من الأزمات السياسية التي عصفت بالمجتمع المسلم، ولكن لعظمة بنائه على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينهار بل ظل متماسكًا، وظلَّت روح التكافل والتعاون بين أبنائه. وهذه نماذجٌ لما كان سائدًا في ذلك العصر، وسنتناول أهمَّ مظاهر التكافل والإغاثة في عهده رضي الله عنه من خلال ما يلي:

تكافله وإغاثته لرعيَّته:

كان الإمام علي رضي الله عنه أثناء خلافته يمشي في أسواق الكوفة وهو خليفة المسلمين، فيُرشد الضالَّ ويُعين الضعيف، ويلتقي بالشيخ المسنِّ الكهل فيحمل عنه حاجته، ويتحرَّج أصحابه ممَّا يرون؛ فيقتربون منه فيقولون له: يا أمير المؤمنين. ولكنَّه لا يدعهم يتمُّون حديثهم[1]؛ بل يتلو عليهم قول الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[القصص: 83].

وإيمانًا من علي بن أبي طالب رضي الله عنه بضرورة تقديم القدوة للمسلمين تصدَّق بقطعة أرضٍ كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أقطعها إيَّاه في ينبع، فحفر فيها عينًا، فبينما هم يعملون فيها إذ تفجَّر عليهم مثل عنق الجزور من الماء، فأتى عليٌّ وتصدَّق بها على الفقراء والمساكين في سبيل الله، وكتب في وصيَّته: هذا ما أمر به عليُّ بن أبي طالب وقضى في ماله: إنِّي تصدَّقت بينبع ووادي القرى والأذنية وراعة في سبيل الله ووجهه، أبتغي مرضاة الله، يُنفَق منها في كلِّ منفعةٍ في سبيل الله ووجهه، وفي الحرب والسلم والجنود، وذوي الرحم القريب والبعيد، لا يباع ولا يوهب، ولا يورث حيًّا أنا أو ميتًا، أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، ولا أبتغي إلا الله عز وجل، فإنَّه يقبلها وهو يرثها وهو خير الوارثين، فذلك الذي قضيت فيها بيني وبين الله عز وجل[2].

كما ذكر ابن كثير أنَّ رجلًا جاء عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّ لي إليك حاجةً فرفعتها إلى الله تعالى قبل أن أرفعها إليك، فإن قضيتها حمدت الله وشكرتك، وإن لم تقضها حمدت الله وعذرتك. فقال علي: اكتب حاجتك على الأرض؛ فإنِّي أكره أن أرى ذلَّ السؤال في وجهك. فكتب: إنِّي محتاج. فقال لي: عليَّ بحُلَّة. فأُتى بها، فأخذها الرجل فلبسها، ثم أنشأ يقول:

كسوتني حُلة تبلي محاسنها

فسوف أكسوك من حسن الثنا حللا

إن نلت حسن ثنائي نلت مكرمة

ولست أبغي بما قد قلته بدل

إن الثنا ليحيي ذكر صاحبه

كالغيث يُحيي نداه السهل والجبلا

لا تزهد الدهر في خير تواقعه

فكل عبد سيجزى بالذي عملا

فقال علي: عليَّ بالدنانير. فأُتي بمائة دينار فدفعها إليه، فقال الأصبغ: يا أمير المؤمنين، حلة ومائة دينار. قال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " {أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ} "[3]. وهذه منزلة هذا الرجل عندي[4].

فهذا موقفٌ جليلٌ لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الوقوف عند حاجات المحتاجين، والاهتمام بأمورهم ورعاية مشاعرهم.

وكان من عدله رضي الله عنه سياسته الرشيدة الصائبة في مال الأمة، أنَّه كان يرى أنَّ المال الذي جاء إلى بيت مال المسلمين إنَّما هو للفقراء، والمساكين، وقضاء حاجة المحتاجين، ووأد الفقر، لتُصبح الأمة في عافية وبحبوحة من العيش. من هنا أعلن منهجه الرشيد بقوله: إنَّ الله فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقيرٌ إلَّا بتخمة غني! وأخذ يُوزِّع المال بيمينه وشماله حتى لم يبقَ عنده صفراء ولا بيضاء[5].

فكان رضي الله عنه إذا أتاه مالٌ لم يُبقِ منه شيئًا إلَّا قسَّمه، ولا يترك في بيت المال منه إلَّا ما يعجز عن قسمته في يومه ذلك؛ فقد جاءه مؤذِّنه (عامر بن النباح) يومًا فقال: يا أمير المؤمنين، امتلأ بيت مال المسلمين من صفراء وبيضاء. فقال: الله أكبر! وتوكَّأ على ابن النباح وقام على بيت مال المسلمين، فقال: يابن النباح، عليَّ بفقراء الكوفة. قال: فنودي في الناس، فأعطى جميع ما في بيت مال المسلمين، وهو يقول: يا دنيا غُرِّي غيري... حتى ما أبقي دينارًا ولا درهمًا[6].

مظاهر تكافليَّة في عهده:

كما جاد عليٌّ رضي الله عنه بماله، ربَّى أولاده على العطاء والتكافل مع المحتاجين والفقراء؛ فيُروى عن عليٍّ رضي الله عنه أنَّه خطب وقال: "إنَّ الحسن قد جمع مالًا، وهو يُريد أن يُقسِّمه بينكم، فحضر الناس، فقام الحسن فقال: إنَّما جمعته للفقراء، فقام نصف الناس"[7].

وما استعرضناه من صورٍ تكافليَّةٍ وإغاثيَّةٍ في عهد الخلفاء الراشدين، إنَّما يُؤكِّد على مدى تأصُّل هذا المبدأ في مجتمعٍ تربَّى على يد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والتزم بمبادئ الإسلام وقيمه، فاستطاع أن يسود العالم؛ لأنَّ صلاح الفرد عاملٌ أساسيٌّ من عوامل صلاح المجتمع، فالفرد أشبه باللبنة في البنيان، ولا صلاح للبنيان إذا كانت اللبنة ضعيفة هشَّة تُعاني من أمراضٍ وعوزٍ وفقر.

المصدر:

كتاب رحماء بينهم، للدكتور راغب السرجاني.

[1] ابن كثير: البداية والنهاية 8/6، وانظر أيضًا: خالد محمد خالد: خلفاء الرسول ص287.

[2] ابن حزم: المحلى 6/180، قلعجي: فقه علي ص 626.

[3] أبو داود: كتاب الأدب، باب في تنزيل الناس منازلهم (4842)، وأبو يعلى (4826).

[4] ابن كثير: البداية والنهاية 8/9.

[5] الزمخشري: ربيع الأبرار 1/420.

[6] عبد الستار الشيخ: عمر بن الخطاب الفاروق العادل ص 541.

[7] الذهبي: سير أعلام النبلاء 3/261.

أبو الهيثم محمد درويش

دكتوراه المناهج وطرق التدريس في تخصص تكنولوجيا التعليم من كلية التربية بجامعة طنطا بمصر.

  • 3
  • 1
  • 4,807
المقال السابق
توليه الخلافة
المقال التالي
من فقه الإمام -1

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً