تواضع النبي صلى الله عليه وسلم
هذا مع أن فضله -صلى الله عليه وسلم- ثابت على جميع الأنبياء السابقين بلا ريب، وهذا الحديث إنما قاله من تواضعه عليه أفضل الصلاة والسلام.
{بسم الله الرحمن الرحيم }
روى الإمام مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ [الخلق] فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ)»
** قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا تَوَاضُعًا وَاحْتِرَامًا لِإِبْرَاهِيمَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِخُلَّتِهِ وَأُبُوَّتِهِ، وإلا فنبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «(أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ ولا فخر)» وَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ الِافْتِخَارَ وَلَا التَّطَاوُلَ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَهُ، بَلْ قَالَهُ بَيَانًا لِمَا أُمِرَ بِبَيَانِهِ وَتَبْلِيغِهِ.
** أورد بعضهم إشكال بأنه لو كان -صلى الله عليه وسلم- أفضل من أبو الأنبياء إبراهيم لغير صفة الصلاة عليه في التشهد بعد علمه أنه أفضل، وأجيب بأنه:
// لا تلازم بين علمه بأنه أفضل وبين التغيير، لأن بقاء ذلك لا يستلزم نقصا فيه بل التغيير قد يوهم نقصا لإبراهيم.
أو أنه قال ذلك تواضعا وشرعا لأمته ليكتسبوا به الفضيلة.
أو التشبيه (في قوله: كما صليت) إنما هو لأصل الصلاة بأصل الصلاة لا للقدر بالقدر. كقوله تعالى:
/{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ} [النساء:163]
{{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}} [البقرة:183]
{{وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}} [القصص: 77]
** الحديث دليل على أن سيدنا إبراهيم -عليه السلام- أفضل الأنبياء بعد نبينا -صلى الله عليه وسلم-، واختص الله عز وجل نبيه دون إبراهيم بذكره فيما لا يذكر إبراهيم فيه في التأذين في الصلاة والإقامات بها بأن جعله -صلى الله عليه وسلم- مذكورا فيها بعد ذكره عز وجل فيها، فكانت هذه منزلة فُضل بها نبينا -صلى الله عليه وسلم- على سائر النبيين صلى الله عليهم أجمعين
وأيضا قال تعالى: {{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً}} [الفتح:2] ولم يغفر لأحد قبله ما تأخر من ذنبه .. وهذا في الدنيا، أما في الآخرة فأعطاه المقام المحمود الذي لم يعطه غيره.
** ويتضمن هذا الحديث جواز التفاضل بين الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم-، ويلي إبراهيم موسى عليه السلام؛ لأنه كليم الرحمن، وقد اجتمع في نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ما تفرق في غيره، فهو خليل الرحمن، وكليم الرحمن، وإبراهيم خليل الرحمن، وموسى كليم الرحمن.
** قيل إن سبب هذا الحديث أن الآية لما نزلت {{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}} [البقرة:260] قال بعض الناس: "شك إبراهيم ولم يشك نبينا" فبلغه -صلى الله عليه وسلم- ذلك فقال: «(نحن أحق بالشك من إبراهيم)»
وأراد ما جرت به العادة في المخاطبة لمن أراد أن يدفع عن آخر شيئا، قال: مهما أردت أن تقوله لفلان فقله لي. ومقصوده لا تقل ذلك.
وقيل معناه: هذا الذي ترون أنه شك أنا أولى به لأنه ليس بشك إنما هو طلب لمزيد البيان.
وقيل هو نحو قوله تعالى: {{أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}} [الدخان:37] أي لا خير في الفريقين، ونحو قول القائل: «الشيطان خير من فلان» أي لا خير فيهما، فعلى هذا فمعنى قوله -صلى الله عليه وسلم- (نحن أحق بالشك من إبراهيم) لا شك عندنا جميعا.
وقال ابن عطية: ومحمل قول بن عباس عندي أنها أرجى آية لما فيها من الإدلال على الله.
فقول إبراهيم عليه السلام: {بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} أي ليزيد سكونا بالمشاهدة المنضمة إلى اعتقاد القلب لأن تظاهر الأدلة أسكن للقلوب.
** وهذا الحديث مثل الحديث الذي رواه عَبْدِ اللَّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى) » [الدارمي]
وعن ابنَ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «(مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى)»
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: « (من قال أنا خيرٌ من يونس بن متى فقد كذب) » [البخاري]
أي ليس لأحد أن يفضل نفسه على يونس، أو ليس لأحد أن يفضلني عليه، وهذا من تواضعه -صلى الله عليه وسلم-، أو قاله زجرا عن تَوَهُّمِ حَطِّ رُتْبَةِ يُونُسَ.
قال العلماء: وتخصيصه يونس بتسميته من بين سائر الأنبياء لأن الله تعالى وصفه بأوصاف قد يسبق إلى الأوهام انحطاطه في الدرجة وانخفاضه في المنزلة، وذلك أنه تعالى قال: {{وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ}} [الأنبياء:87]، وقال: { {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} } [الصافات:140]، وقال: {{فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ}} [الصافات:142] وقال: {{لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ}} [القلم:49]
هذا مع أن فضله -صلى الله عليه وسلم- ثابت على جميع الأنبياء السابقين بلا ريب، وهذا الحديث إنما قاله من تواضعه عليه أفضل الصلاة والسلام.
** ومثله حديث: «(لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأصعق معهم فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش» [أي متعلق به بقوة. والبطش: الأخذ القوي الشديد] «فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي أو كان ممن استثنى الله؟)» [متفق عليه]
وأورد أبو داود حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رجلاً من اليهود قال: والذي اصطفى موسى، وفي بعض الروايات: على العالمين، فغضب المسلم الذي سمعه ولطمه؛ لأنه فضله على محمد؛ حيث قال: على العالمين، ومعناه: أنه فضله تفضيلاً مطلقاً، فلطمه المسلم، وجاء اليهودي واشتكى المسلم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعند ذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: «(لا تخيروني على موسى)»
** ومثله حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: « «سُئِلَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أيُّ النَّاس أكْرَمُ؟ قال: (أكرمُهمْ عند الله أتقاهم)، قالوا: ليس عن هذا نَسألُك، قال: (فيوسُفُ نبيُّ الله ابنِ خَلِيلِ الله)»
أي إذا لم تسألوني عن هذا، فأكرم الناس في زمانه يوسف أو في النسب والحسب كما يدل عليه تعداد آبائه وأجداده كما فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن عُمَر -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «(الْكَرِيم اِبْن الْكَرِيم بْن الْكَرِيم: يُوسُف بْن يَعْقُوب بْن إسحَاق بْن إِبْرَاهِيم)»
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
- التصنيف: