تعلموا القرآن
وهو المنافق، ودل الحديث على ذم المباهي بتلاوته. وكثيرا ما يقصد قراء زماننا المباهاة بأصواتهم والفخر بحفظهم، فليحذر من يجد هذا من نفسه وليعلم أن كتاب الله هداية تخشع لها القلوب، وتستسلم الجوارح.
{بسم الله الرحمن الرحيم }
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَسَلُوا بِهِ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَنْ يَتَعَلَّمَ قَوْمٌ يَسْأَلُونَ بِهِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْقُرْآنَ يَتَعَلَّمُهُ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ يُبَاهِي بِهِ، وَرَجُلٌ يَسْتَأْكِلُ بِهِ، وَرَجُلٌ يَقْرَأُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» [البيهقي في شعب الإيمان وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة 258]
** وفي رواية: (تعلموا القرآن واسألوا الله به .. ) [رواه أبو عبيد في فضائل القرآن، وصححه الحاكم]
** وأخرجه الإمام أحمد بلفظ آخر، وفي آخره: (ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن ومنافق وفاجر). وفسر الراوي عن أبي سعيد الفاجر بمن يتأكل بالقرآن.
فقوله في رواية أبي عبيد: (ورجل يستأكل به) بمعنى الفاجر في رواية الإمام أحمد. ويكون حينئذ قوله في رواية أبي عبيد (رجل يباهى به) بمعنى قوله في الرواية الأخرى: (ومنافق).
** عن بشير بن أبي عمرو الخولاني: أن الوليد بن قيس التُّجِيبِيّ حدثه: أنه سمع أبا سعيد الخدري -رضي الله عنه- يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (يكون خلف من بعد الستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيًا، ثم يكون خلف يقرؤون القرآن لا يعدو تراقيهم، ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن، ومنافق، وفاجر). قال بشير: فقلت للوليد: ما هؤلاء الثلاثة ؟ قال: المنافق كافر به، والفاجر يتأكل به، والمؤمن يؤمن به. [رواه: الإمام أحمد، وابن أبي حاتم، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه"، والبيهقي في "شعب الإيمان". قال ابن كثير: (وإسناده جيد قوي". وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه"].
قوله: (رَجُلٌ يُبَاهِي بِهِ)
** وهو المنافق، ودل الحديث على ذم المباهي بتلاوته. وكثيرا ما يقصد قراء زماننا المباهاة بأصواتهم والفخر بحفظهم، فليحذر من يجد هذا من نفسه وليعلم أن كتاب الله هداية تخشع لها القلوب، وتستسلم الجوارح.
** قال حذيفة: أقرأ الناس بالقرآن منافق يقرؤه، لا يترك منه ألفا ولا واوا، لا يجاوز ترقوته.
لا يجاوز ترقوته أو حناجرهم. يعنى: لا يرتفع إلى الله، ولا يؤجرون عليه لعدم خلوص النية بقراءته لله تعالى، ولذلك شبه قراءة المنافق لمّا كانت رياء وسمعة بطعم الريحانة المر الذي لا يلتذ به آكله، كما لا يلتذ المنافق والمرائي بأجر قراءته وثوابها.
** عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: "لا تقوم الساعة حتى يرجع القرآن من حيث نزل، له دوي حول العرش كدوي النحل، يقول أُتلى ولا يعمل بي»
** عن أبي العالية: "لا تذهب الدنيا حتى يخلق القرآن في صدور قوم ويبلى كما تبلى الثياب، إن قصروا عما أمروا به، قالوا: سيغفر لنا، وإن انتهكوا ما حرم عليهم، قالوا: إنا لن نشرك بالله شيئا، أمرهم إلى الضعف الذي لا يخالطه مخافة، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أفضلهم في أنفسهم المداهن".
** عن أبي الدرداء رضي الله عنه؛ قال: "أقرأ الناس لهذا القرآن المنافق؛ لا يذر منه ألفًا ولا واوًا، يلفه بلسانه كما تلف البقرة الكلأ بلسانها" [رواه عبد الرزاق، ورجاله كلهم ثقات].
قوله: (وَرَجُلٌ يَسْتَأْكِلُ بِهِ)
** وهو الفاجر، ودل الحديث على ذم من يأخذ على القراءة أجرًا كما عليه كثير من القراء الذين يتأكلون بالقراءة في المآتم والمحافل وغيرها، وكذلك من يجعل القراءة وسيلة لسؤال الناس، وقد يفعلون ذلك في المسجد الحرام؛ يجلس أحدهم، فيقرأ قراءة متكلفة يتنطع فيها، ويعالج في أدائها أعظم شدة ومشقة، وتنتفخ أوداجه، ويحمر وجهه، ويكاد يغشى عليه مما يصيبه من الكرب في تكلفه وتنطعه، ويفرش عنده منديلًا أو نحوه؛ ليلقي فيه المستمعون لقراءته ما يسمحون به من أوساخهم، وهذا مصداق ما في حديث عمران بن حصين وحديث أبي سعيد رضي الله عنهما.
** عن رجل أن عمران بن الحصين مر على رجل يقرأ على قوم، فلما قرأ سأل، فقال عمران: "إنا لله وإنا إليه راجعون، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من قرأ القرآن فليسأل الله، فإنه سيجيء أقوام يقرؤون القرآن يسألون الناس به). [قال أبو عيسى: هذا حديث حسن]
** عن عمران بن حصين رضي الله عنه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اقرءوا القرآن وسلوا الله به، فإن من بعدكم أقواما يقرءون القرآن يسألون به الناس)
وفي رواية: (من قرأ القرآن فليسأل الله به، فإنه سيجيء قوم يقرءون القرآن يسألون الناس به)
** وعن علي -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من اقتراب الساعة إذا كثر خطباء المنابر ) ... الحديث وفيه (واتخذتم القرآن تجارة).
** وعن زادان قال: "من قرأ القرآن ليستأكل به الناس، جاء يوم القيامة ووجهه عظم ليس عليه لحم".
** وقال ابن مسعود: سيجيء على الناس زمان يُسئل فيه بالقرآن، فإذا سألوكم فلا تعطوهم.
وفي الفتح: وأخرج أحمد وأبو يعلى من حديث عبد الرحمن بن شبل رفعه: (أقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه ولا تأكلوا به) الحديث وسنده قوي
[ولا تغلوا فيه]أي تتعدّوا حدوده من حيث لفظه أو معناه
[ولا تجفوا عنه]أي تعاهدوه ولا تبعدوا عن تلاوته وهو من الجفاء
[ولا تأكلوا به]لا تجعلوا له عوضا من سحت الدنيا
** قال ميمون بن مهران: "يا أصحاب القرآن لا تتخذوه بضاعة تلتمسوا به الشف في الدنيا -يعني الربح- واطلبوا الدنيا بالدنيا، والآخرة بالآخرة".
** قال أحد العلماء: الغريب هو القرآن في جوف الفاجر.
** عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-؛ قال: " «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرأ القرآن، وفينا العجمي والأعرابي. قال: فاستمع، فقال: (اقرؤوا؛ فكل حسن، وسيأتي قوم يقيمونه كما يقام القدح؛ يتعجلونه ولا يتأجلونه) أي أجره. » [رواه: الإمام أحمد ورواته ثقات، وأبو داود وإسناده صحيح على شرط مسلم]
وفي رواية لأحمد؛ قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد؛ فإذا فيه قوم يقرؤون القرآن؛ قال: (اقرؤوا القرآن، وابتغوا به الله عز وجل من قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة القدح؛ يتعجلونه ولا يتأجلونه). [إسناده صحيح على شرط مسلم].
وعن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه-؛ قال: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا ونحن نقتري، فقال: (الحمد لله، كتاب الله واحد، وفيكم الأحمر، وفيكم الأبيض، وفيكم الأسود، اقرؤوه قبل أن يقرأه أقوام يقيمونه كما يقوم السهم؛ يتعجل أجره ولا يتأجله). [رواه أبو داود وإسناده حسن].
ورواه الإمام أحمد، ولفظه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (فيكم كتاب الله؛ يتعلمه الأسود والأحمر والأبيض، تعلموه قبل أن يأتي زمان يتعلمه ناس ولا يجاوز تراقيهم، ويقومونه كما يقوم السهم، فيتعجلون أجره ولا يتأجلونه).
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه-؛ قال: "بينما نحن نقرأ فينا العربي والعجمي والأسود والأبيض؛ إذ خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: «أنتم في خير، تقرؤون كتاب الله، وفيكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وسيأتي على الناس زمان يثقفونه كما يثقفون القدح؛ يتعجلون أجورهم ولا يتأجلونها» [رواه الإمام أحمد].
** وفي هذه الأحاديث فوائد:
إحداها: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحب القراءة السهلة.
الثانية: أنه كان يأمر أصحابه أن يقرأ كل منهم بما تيسر عليه وسهل على لسانه.
الثالثة: ثناؤه عليهم بعدم التكلف في القراءة.
الرابعة: ذم المتكلفين في القراءة، المتعمقين في إخراج الحروف.
** ولا يتناول هذا الذم من يأخذ الأجرة على تعليم القرآن إذا كانت في مقابلة تعبه، وشغل وقته، ولم يتخذ تعليمه صناعة من الصناعات المادية المحضة، بل على هذا المعلم- إن أراد السلامة من ذلك الذم- أن يكون هو نفسه عاملا بكتاب الله، وأن يقصد من تعليمه الدعوة إلى العمل به.
قوله: (وَرَجُلٌ يَقْرَأُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)
** عن ابن مسعود -رضي الله عنه-: "كنا إذا تعلمنا من النبي -صلى الله عليه وسلم- عشرا من القرآن، لم نتعلم العشر التي بعدها حتى نعلم ما نزل في هذه من العمل".
** عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "لقد عشنا برهة من دهرنا واحدنا يؤتى الإيمان من قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد -صلى الله عليه وسلم- فيتعلم حلالها وحرامها وزاجرها وآمرها وما ينبغي أن يقف عنده منها، كما تعلمون أنتم القرآن، لقد رأيت اليوم رجالا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري آمره ولا زاجره ولا ما ينبغي أن يقف عنده، يَنْثُرُه نَثْرَ الدَّقَلِ ". [ردئ التمر ويابسه، وذلك أن الدَّقَلَ من الثمر لاَ يَكَادُ يَلْصُقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فإِذا نُثَرِ يَفْرُقُ سَرِيعاً]
** عن الحسن رحمه الله: "لم يبعث الله رسولا إلا أنزل عليه كتابا، فإن قبله قومه وإلا رفع فذلك قوله {أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين} [الزخرف: 5] لا تقبلونه فنلقيه على قلوب بقية، قالوا: قبلناه ربنا، قبلناه ربنا، ولو لم يفعلوا لرفع ولم ينزل منه شيء على ظهر الأرض".
** قال الليث بن سعد: يقال: "إنما يرفع القرآن حين يقبل الناس على الكتب ويكبون عليها ويتركون القرآن".
** قال مجاهد -رحمه الله-: إن القرآن يقول: "إني معك ما تبعتني فإذا لم تعمل بي تبعتك حتى آخذك على أسوأ عملك".
** قال علي بن أبي طالب –رضي الله عنه-: لإياس بن عامر: "إنك إن بقيت فسيقرأ القرآن ثلاثة أصناف؛ صنف لله، وصنف للدنيا، وصنف للجدل"
** يقول صاحب الظلال –رحمه الله تعالى-:
"هذا القرآن لا يتفتح عن أسراره إلا للعصبة المسلمة التي تتحرك به، لتحقيق مدلوله في عالم الواقع. لا لمن يقرءونه لمجرد التبرك! ولا لمن يقرءونه لمجرد الدراسة الفنية أو العلمية، ولا لمن يدرسونه لمجرد تتبع الأداء البياني فيه!
إن هؤلاء جميعاً لن يدركوا من هذا القرآن شيئاً يذكر. فإن هذا القرآن لم يتنزل ليكون مادة دراسة على هذا النحو؛ إنما تنزل ليكون مادة حركة وتوجيه".
ويقول أيضا: هذا القرآن لا يكشف عن أسراره إلا للذين يخوضون به المعركة ويجاهدون به جهاداً كبيراً .. إن هؤلاء وحدهم هم الذين يعيشون في مثل الجو الذي تنزل فيه القرآن؛ ومن ثم يتذوقونه ويدركونه؛ لأنهم يجدون أنفسهم مخاطبين خطاباً مباشراً به، كما خوطبت به الجماعة المسلمة الأولى، فتذوقته وأدركته وتحركت به"
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
- التصنيف: