صلة الأرحام

منذ 2020-12-10

« مَن أحبَّ أن يُبْسَط له في رزقه ، وأن يُنْسَأ له في أثره فلْيَصِل رَحِمَه» [مُتّفَق عليه]

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى
من خطب الدكتور عبد الرحمن عبد اللطيف النمر ، بعنوان : {وأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّه} [الأنفال : 75]

الحمد لله الذي صوّر الخَلق ورزقهم العقل والفكر ، وأنزل لهم من الآيات البيّنات ما فيه هدى ونور . والصلاة والسلام على معلّم الناس الخير ، محمد بن الله ، الذي أرسله الله هدايًا وشاهدًا ومبشّرًا ونذيرَا ، وجعل الله طاعته أمرًا مفروضًا وسنّته بيانًا شافيًا .
أما بعد :
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " «إِنَّ اللَّه تَعَالى خَلَقَ الخَلْقَ ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ ، فَقَالَتْ : "هَذَا مقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ" ، قَالَ : "نَعَمْ ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟" قَالَتْ : "بَلَى" ، قال : "فذَلِكَ لَكِ" . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم : اقرؤوا إِنْ شِئْتُمْ» : {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23]" [مُتّفق عليه] .
وعن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت : "قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "الرّحِم معلَّقَة بالعرش ، تقول : من وَصَلني وَصَلَه الله ، ومن قَطَعني قَطَعه الله" [رواه الإمام مسلم] .
قال العلماء : حقيقة الصِّلَة العَطف والرحمة . فَصِلَة الله سبحانه وتعالى عبارة عن لطفه بعباده ورحمته إياهم ، وعطفه عليهم بإحسانه ونِعَمه . وقال القاضي عِياض في "شرح المَرَام" : "لا خلاف أنّ صلة الرّحِم واجبة في الجملة ، وقطيعتها معصية كبيرة . والصلة درجات بعضها أرفع من بعض ، وأدناها ترك المُهاجَرة وصلتها بالكلام ولو بالسلام!" .
وفضلًا عن أنّ صلة الرحم طاعة لله تعالى وتنفيذ لِهَدْي نبيّه الكريم عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم ، فإنها تجلب الخير العميم والأجر الجزيل . فعن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « مَن أحبَّ أن يُبْسَط له في رزقه ، وأن يُنْسَأ له في أثره فلْيَصِل رَحِمَه» [مُتّفَق عليه] . (يُنْسَأ : يُؤَخَّر . والأَثَر : الأَجَل) .
قالت العلماء : بَسْط الرزق توسيعه وكثرته ، وقيل : البركة فيه . وأما تأخير الأجل فهو البركة في العمل والتوفيق للطاعات وعِمارة الوقت بما ينفع في الآخرة .
وفي المقابل ، وفضلًا عن أن قطيعة الرّحِم معصية كبيرة ، فإن القطيعة تَحرِم العبد المسلم من مغفرة الله تعالى له . فعن أبي هُرِيرة رضي الله عنه ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُسْلِمٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلٌ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ ، فَيُقَالُ أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا ، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا» [رواه مسلم في صحيحه – باب النهي عن الشَّحْناء] . (الشَّحْناء : العداوة . أَنْظِروا هذين : أَخِّروهما حتى يفيئا ، أي يرجعا للصلح والمودّة) .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر المسلمين بالأخوّة والمودّة ، وينهاهم عن التباغض والتدابر . فعن أبي هُرَيرة رضي الله عنه قال : "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " «لا تَحاسَدُوا، ولا تَباغَضُوا، ولا تَجَسَّسُوا، ولا تَحَسَّسُوا، ولا تَناجَشُوا، وكُونُوا عِبادَ اللهِ إخْوانًا» " [رواه مسلم في صحيحه – باب تحريم الظنّ والتجسس والتناجش ونحوهما] . (التحسّس : الاستماع لحديث القوم . التجسّس : البحث عن العَوْرات . وقيل هما طلب المعرفة بالأخبار والاحوال الغائبة . والتناجش : ذمّ بعضهم بعضًا] .
وهذا أمر لعامّة المسلمين ، فكيف بذوي الأرحام؟!
ويتعيّن على المسلم العاقل الذي يرجو رحمة الله ورضوانه ، ويخشى غضبه وعقابه ، أن يَعرِض أمره وعمله على شرع الله تبارك وتعالى . فإن كان عمله وجميع أمره موافقًا لشرع الله تبارك وتعالى ، فليحمد الله تعالى أن هداه ووفّقه وسدّده . وإن وَجَد غير ذلك ، رَجَع من قريب .
وينبغي للمسلم الفَطِن ألا ينخدع بوسواس الشيطان ، وألا يتعالى على الحق إذا استبان له ، امتثالًا لأمر الله تبارك وتعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ . وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ}[الأنفال : 20 – 21] .
أمّا من استكبر على الحق لمّا جاءَه ، وتعالى عليه لمّا استبان له ، فقد وقع في هُوَّة الضّلال – والعياذ بالله :{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب : 36] .
وليتدبّر المسلم قول الحق تبارك وتعالى :{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)}} [فصّلت] .
وصدق الله العظيم ، حيث يقول في كتابه الحكيم :{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (25) لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ ۖ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ ۚ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)}[يونس] .
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسَنَه . وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربّ العالمين .

  • 1
  • 0
  • 2,340

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً