التوحيد في سورة الأنعام
إذا به يعود وقد نفض عنه غبار الغفلة والصدود، وهو لا يملك إلا الإيمان والإذعان، مع الكون الناطق بالتوحيد الخالص.
تبدأ أولى كلمات السورة بقذيفة مدوية ساحقة لمنطق المشركين السمج؛ فمع أن الله خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور؛ فإنهم بربهم يعدلون!
وسميت بالأنعام لأن الأنعام موضوع الشرك المنافي للتوحيد، وموضوع حق التحليل والتحريم الذي ينتحلونه لأنفسهم من دون الله. ولأن الأنعام كانت عصب الاقتصاد في قريش، ندرك أن الاقتصاد – مثل كل مناحي الحياة - يخضع لتوحيد الله!
وفي سبيل إرساء التوحيد وإقراره، تطوف السورة بالقارئ في عالم من المشاهد الكونية؛ على مستوى تصحيح أفكار المشركين، وتحفل بالدلائل التي تسوق الناس سوقا وتقود زمامهم إلى الله، وتفتح الأبصار على براهين التوحيد الشائعة في ملكوت الله، والروائع التي بثها هنا وهناك، فتمضي في تفنيد الشبهات، وتلفت القلوب إلى مطالعة آيات الله في الأنفس والآفاق، وتستثير الفطرة، وتخوّف من الآخرة!
وتؤسس السورة عقيدة التوحيد على النظر العقلي المتأمل في الكون وما فيه من أفلاك ونبات، وتسوق الحجج والبينات؛ فتعرض مشهد مجادلة إبراهيم لقومه وطوافه بهم في سياحة فلكية كونية، إذ ينتقل من الاستدلال بالكواكب على مكوكبها.
كما يحثّ المنطق القرآني المنير عقل الجاهلين الجامد على أداء عمله الذي خلق له. وهل صدر الجاهلون في تصلبهم وانتكاس فطرتهم، إلا عن عناد نفس، وجمود فكر؟
كما ترسّخ السورة عقيدة التوحيد مستدلة بالنظر إلى التاريخ البشري، وتقرر أن الله الواحد أهلك أقوماً وأحيا آخرين، وتدعو المشركين إلى التفكر في عاقبة المكذبين من الغابرين. وتعرض تاريخ الرسل مع أقوامهم؛ وكيف أرسلهم الله داعين إلى التوحيد منذ نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم .
وتزلزل السورة كبرياء المشركين المريضة، وتحرّك حسهم الغليظ، وتقرعهم وتوبخهم، لتدفعهم دفعا إلى التفكر والتأمل؛ وتعريهم أمام أنفسهم؛ "فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون."
وتسوق السورة البرهان تلو البرهان؛ فتصدر الأمر "قل" 44 مرة، وتستحضر يد القدرة الإلهية المطلقة، فتكرر الضمير "هو" 39 مرة. وبعد أن يسبح العقل ويجول في ملكوت الله بين أجرام وأفلاك، وماض وحاضر، ورسل وأقوام، وزرع ونبات، وحبّ ونوى، وجنة ونار، وظلمة ونور، وأرض وسماء، وسراء وضراء، ونفع وضر، وليل ونهار، وغيب وشهود، وسر وجهر، وتصديق وتكذيب، ودلائل ومعجزات، إذا به يعود وقد نفض عنه غبار الغفلة والصدود، وهو لا يملك إلا الإيمان والإذعان، مع الكون الناطق بالتوحيد الخالص.
- التصنيف: