أَرَقٌ له آهاته وتباريحه
ثم فلكأنك أمام أعجاز نخل خاوية، لا ثمرة ولا مَئِنات نضج وطلاوة، نعم كأنك أمام شخوص لا يجمعهم بسيرتهم الماضية<والقريبة العهد إلا قرائن نفس الاسم وعين الرسم.
تؤرقني ظاهرة التحوّل كثيرا، ويؤرقني أكثر جهد ومحاولة الربط في سلاسة ومنطق ومناسبة بين مقدمات الماضي القريب وانقلابات اليوم البعيد، ثم ما تلبث أن تترادف ـ وكأنها السيل العرم ـ على رأسي مستأسرة آخذة بناصيتي إلى عتمة من الحيرة والريب أسئلة من قبيل : كيف...؟ لماذا...؟ وهل...؟ متى...؟ أكان...؟
أحاول جاهدا ولا أزال أن أفهم هذه الظاهرة آملا أن يتسنى لي تفسير فصامها النكد، إذ كيف لأناس لطالما حسبت نفسي أمامهم في موضع القدم، جمهرة من المعارف وسيل دافق من المعلومات، وسلاسل ذات حلقات وحلقات من الخطب والخرجات، وآلات وآلات في ملكية الجوف والذهن والناصية، كنت مع غيري أنبهر لقرعها، وأزيز صوتها، وصدع قرعها طبول آذان الموافقين والمخالفين جملة وفرادى، لهم من كل فن وأصل وفرع وضرب حظوظ علم، وشغب مدافعة، بل فرط اندفاع قد ساق بعضهم إلى غياهب السجون، فرمى بخشباتهم الصافقة المشاغبة وراء القضبان لسنين عددا...
ثم بعد كل هذا الركز المحموم تأتي ريح التغيير الصرصر العاتية، يصاحب نذيرها دبغ الاستحالة، ثم فلكأنك أمام أعجاز نخل خاوية، لا ثمرة ولا مَئِنات نضج وطلاوة، نعم كأنك أمام شخوص لا يجمعهم بسيرتهم الماضية، والقريبة العهد إلا قرائن نفس الاسم وعين الرسم.
يا للعجب ويا للأسف، كيف تسلّلت روح الحق فارّة من جنبات هذه الكتل البشرية، التي لطالما تمسلخت بمسلاخ فاقع البياض، فصيّرها هذا الفراق والفرار إلى غرانيق وأزلام تدور مع مصالحها حيث أناخ ركبها، نراها اليوم قد مردت على نبس البهتان، واستمرأت شهود مشهد الزور تموقعا وتكلما، وتحركا وإمساكا.
إنني مخافة أن تذهب النفس عليهم حسرات، كنت أقتل الخوف الذي يقتات على فعل الفضول بآلية الاستفهام، فتراني أسأل في محيطهم، وأوجه سهم السؤال إلى حضن القريبين منهم، المعاشرين لهم حينا من الدهر، أستقي إجمالات أخبارهم، وأستام تفاصيل سيرتهم قبل التحوّل، رجاء وبُغية تحصيل حكم ذوقي يغني فيه طعم الحال عن ظن المقال، فكنت المرة تلو الأخرى أُخْبَرُ بأنهم حتى زمن ووقت ما كان يظهر منهم للبعيدين من حسن سيرة وجميل تطبع، كان المتفرس يجد نفوسهم مشحونة بروح التعاظم، مغمورة في وحل التكبر، مطمورة في طين الغمط، ملأى بأنفاس التيه، وتلك ولا شك دريئة يفسر على موضع تأبطها من الكتف عدل وإنصاف حقيقة الجزاء الوفاق، حيث يصدر الأمر الرباني بالعقاب الذي ذروة تفاصيله أن يُحال بين هذه النفوس وبين مزية الانتفاع بالحجج والآيات والأدلة والبيِّنات التي كانوا يستظهرونها في دلق وانسيابية، ثم يمرقون من لازمها مروق السهم من الرمية، ويرتلون ترانيمها في لحن منغوم لا يُجَاوز تراقيهم، فيجيء وعيد الله من جهة العدل لا الفضل مقررا حكمه الحاسم في جنسهم ونوعهم مصداقا لقوله تعالى :"سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق"
لا أظن أن من تدبر الآية وتذكر لازمها سيبقى في نفسه لبس، أو على عينيه غشاوة قد تحيل غيرته على خيبة أمل تستثقل عجرفة هؤلاء، وحيدتهم عن الحق في استخذاء مهين، بل مطاردته في جفوة تصعر خدها لكل ناصح أمين، لا شك أن من تدبر وتذكر فنال من معين المنسوب الإيماني والمعنوي للآية اسطاع أن يزيح قناع الحيرة عن لبِّه، وأن يخفف من الكابوس الجاثم على قلبه من الاستفهامات التي يبحث أصحابها في براءة وفطرية وسليقة عن رأب الصدع ورتق الخارق والفجوة الحاصلة في سيرةٍ ذاتيةٍ، سافر أصحابها من أقصى أقصى اليمين إلى أقصى أقصى الشمال، فقد كنتَ ترى الواحد منهم قد يتصلّف ويتجلّف ويتكلّف، يصول ويُعربد، يقعقع ويفرقع، فيفسق وربما كفّر أو يكفر مقابل لمم أو صغيرة صدرت عن أيّها الناس، ربما كان الكف عنها من جهة التورّع لا التحريم أو الكراهة، بل قد تكون فرعا من جنس ما يدور فيه الاختلاف في دائرة تنوّع الرحمة لا تضاد العذاب...
ثم ما يلبث سهم السفر وصوب الوجهة أن يغيِّر ركزه، قد انقلب صاحبه وتمرد منسلخا عن آيات الله، شاكّا حائرا سادرا، صاحب ريب ومراء في أصول المعتقد، مجادلا في القطعيات والثوابت الشرعية، متسفِّلا في نقيصة اتهام المعلومات من الدين بالضرورة بالحيف والظلامية، يا للهول كيف لهذا أن يصطف منافحا، مناكفا، مجادلا بالتي هي غير أحسن ضد الفروض الإلهية في قسمة الميراث، وكيف لآخر معه أن يدافعا عن حقوق المثلية، وكيف لثالث معهم أن يزدروا الآذان ويشكون رفعه للناس إرضاء لآخرين قد عرفنا أن صلتهم بالله وعلاقتهم بدينه متسفلة عن حاجز الصِفر، وكيف لرابعهم أن يشكك في مصداقية القرآن في مقام الإقناع، وأن يخوض مع الخائضين في آيات الله الكونية والشرعية، وكيف...؟ وكيف...؟ وكيف...؟
وهم من هم أعلام على نار النقد اللاذع حتى الأمس القريب، ربما أقاموا عليك الدنيا جراء ترك سنة القبض، لم نُسجل عليهم قعودا أو غيابا أينما دارت رحى المِراء، وتقابلت سخائم المناظرة، لطالما شادّوا الدين فغلبهم نسأل الله العفو والمعافاة.
نعوذ بالله من الخذلان، كما نعوذ به من الشماتة في أي كان، ونلجأ ونفزع إلى طرق باب الرحمن، مستصرخين بحلمه وفضله دون عدله وسخطه، متشوفين لرحمته، مستهدين مستنصرين بوحيه، وكلنا أمل في أن يوفقنا وإياهم لرؤية الحق حقا والباطل باطلا، ويديم علينا جميعا نعمة التسليم لله ورسوله، إنه ولي ذلك والقادر عليه آمين.
محمد بوقنطار
محمد بوقنطار من مواليد مدينة سلا سنة 1971 خريج كلية الحقوق للموسم الدراسي 96 ـ97 الآن مشرف على قسم اللغة العربية بمجموعة مدارس خصوصية تسمى الأقصى.
- التصنيف: