وتحسبونه هينا
بعض المعاصي قد ألفَتْها النفوس لشيوعها في المجتمع، فينشأ عليها الصغير، ويهرم عليها الكبير، فلا تتحرك النفس حين مقارفة المعْصية، فيُقدم العاصي على المعصية من غير استشعار للتأثُّم؛ {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15]
بعض المعاصي قد ألفَتْها النفوس لشيوعها في المجتمع، فينشأ عليها الصغير، ويهرم عليها الكبير، فلا تتحرك النفس حين مقارفة المعْصية، فيُقدم العاصي على المعصية من غير استشعار للتأثُّم؛ {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15]، والضابط في كَوْن المعصية كبيرةً أو صغيرة راجعٌ إلى النصوص الشرعيَّة؛ فهي الحكم التي يستبين بها الحق، لا الإلف والعادة وفشُو المعصية.
فمتى شاعت المعاصي هانت في النفوس، فقد قيل: كثرة الإمساس تُقَلِّل الإحساس، فهذا أنس - رضي الله عنه - يُخاطب التابعين بقوله لهم: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدقُّ في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من الموبقات؛ يعني بذلك المهلكات؛ رواه البخاري (6492).
واستصغار الذنوب وعدم الاكْتراث أثناء مُقارفة المعصية، لا يصدر من مؤمن عمر الإيمان قلبه، وامتَلأ من خشية ربه، قال عبدالله بن مسعود: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل، يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرَّ على أنفه، فقال به هكذا؛ رواه البخاري (6308).
مِن الذي يظن البعضُ أنه هَيِّنٌ، الاستماعُ إلى حديث شخص يسر بحديث ويكره سماعه له، فالبعض يرى أن الأمر هيِّن، والواقع خلاف ذلك، فهو كبيرة من كبائر الذنوب؛ فعن ابن عباس، عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن تحلم بحلم لم يَرَه، كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بين شَعِيرَتَيْنِ، ولن يَفْعَل، ومَن اسْتَمَعَ إلى حديث قوم وهم له كارهون، أو يفرُّون منه، صُبَّ في أُذُنه الآنُك يوم القيامة، ومَن صَوَّرَ صُورَةً عُذِّب، وكُلِّف أن يَنْفُخَ فيها، وليس بنافخ» (رواه البخاري (7042)، والآنُك: الرصاص المذاب.
فمن تحفَّظ في كلامه، ولم يجهر به، وظهرت منه قرينة تدل على عدم رغبته أن يسمع حديثه أحدٌ، يحرم تقصُّد سماع كلامه ومعرفة ما يقول، ويدخل في ذلك من يقرأ رسائل الجوال في غفلات أصحابها، أو يفتش ويقرأ الأوراق؛ سواء كانت في الثوب، أم في السيارة، أم في مكتب، أم غير ذلك، إذا كان يعلم أن أصاحبها يكرهون ذلك، أمَّا مَن تحَدَّث مع غيره جهرًا وهناك من يكره أن يسمعه، فلا يدخل المستمع في هذا الوعيد؛ لأن قرينة الحال - وهي الجهر - تقتضي عدم الكراهة، فيسوغ السماع.
ومِن الذي يظن البعض أنه هَيِّن لاعتياده عليه، الحلفُ بغَيْر الله؛ كالحلف بالنبي والكعبة، وبحياة فلان، وغير ذلك من الحلف بالمخلوقين؛ فعن ابن عمر قال سمعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَن حلف بغير الله فقد أشرك» (رواه الترمذي (1535)، وقال: حديث حسن.
فالحلف بغَيْر الله شِرْك أصغر، فالحالفُ بغَيْر الله يظن أن الحلف بغير الله هيِّن، وهو عند الله عظيم.
ومما يظنه البعض هينًا: مضايقة المسلمين في طرقهم، بإغلاق الشوارع بمواد البناء، أو بإيقاف السيارة في طريق الناس، فيمنعهم من المرور، أو بترويع مَن يسلك تلك الطرق بتصرُّفات طائشة؛ فعن حذيفة بن أسيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم» رواه الطبراني في "الكبير" (3050)، وحَسَّن المنذري في "الترغيب" (246) إسناده.
فالمؤذي مُعْتدٍ، فإذا دعا عليه الناس استجيب دعاؤُهُم.
ومِن أذى الناس في طرقهم: تسريب مياه الصرف الصحي فيها، فيتأَذَّى الناس بالرائحة الكريهة، إضافة إلى تنجيسهم، وتأذِّي الناس بذلك أعظم من تأذِّيهم بقضاء الحاجة في الطريق، الذي قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه: «اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ»، قالوا: وما اللَّعَّانَانِ يا رسول اللَّه؟ قال: «الذي يَتَخَلَّى في طريق النَّاس، أو في ظلِّهم» (رواه مسلم (269).
ومما يظنه البعضُ هَينًا: المرور بين يدي المصلِّي المنفرد أو الإمام وبين سترته، فلا ينتظر المار حتى يفرغ المصلِّي من صلاته، أو يبحث له عن طريق آخر؛ فعن أبي جهيم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه، لكان أن يقف أربعين، خيرًا له من أن يمر بين يديه» (رواه البخاري (510)، ومسلم (507).
أما المرور بين صُفُوف المأمومين إذا كانوا خلف الإمام، فجائز؛ فعن عبدالله بن عباس أنه قال: أقبلت راكبًا على حمار أتان، وأنا يومئذ قد ناهزتُ الاحتلام، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمَرَرْتُ بين يدي بعض الصف، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف، فلم ينكر ذلك علي أحد؛ رواه البخاري (493).
فالبعض من الرجال والنساء يؤخِّرون الصلاة حتى يخرج وقتها، اعتادوا التأخير والقضاء بعد ذلك، فيؤخرون الفجر إلى بعد طلوع الشمس، ويؤخِّرون العصر إلى بعد غروب الشمس، اعتادوا التأخير، فسهل عليهم الأمر، وليعلموا أنَّ الأمر ليس هينًا، فالمحققون من أهل العلم يرَون أنَّ من أخَّرَ الصلاة حتى خرج وقتها من غير عذر أنه لا يقضي، ولو قضاها ما قُبلَتْ منه.
دليل هؤلاء أنَّ النَّصَّ ورد في قضاء العبادة إذا خرج وقتها، إذا كان لعذر كالنائم والناسي، أما قياس من تعَمَّد تأخير الصلاة عن وقتها على المعذور، فهذا قياس مع الفارق، فغير المعذور آثم، والمعذور غير آثم، وكما أنَّ الصلاة لا تُقبل قبل دخول وقتها، فكذلك تأخيرها حتى يخرج وقتها، وما الذي يجعل مَن قدم الصلاة عن الوقت فصلاها قبل دخول الوقت لا تصح؟ كشَخْص صلَّى الفجر آخر الليل قبل أن ينامَ، ما الذي يجعل هذا لا تُقبل صلاته، ومَن أخرها فصلاها بعد خروج الوقت تُقبل صلاته؟ وكلاهما صلَّى الصلاة في غير وقتها من غير عذر، وقد أمَر اللهُ المكلَّفين بالصلاة في وقتها حتى مع فوات شروطها وأركانها، كما في حال الخوف والمرض، فلو أمكن تدارُك الوقت لصليت بعد زوال العذر تامة، وهذا المنقول عن الصحابة - رضي الله عنه - ولا يُعْرف عن أحدٍ مِن الصحابة - رضي الله عنه - في وجوب القضاء على العامد شيء.
قد تقول أخي: هذا القول فيه شيء من الشِّدَّة، فمَن اختار هذا القول ممن يُعتد بقوله من علماء الأمة؟
فأقول: نعم أخي، الأمر ليس بالسهل أن يؤَخِّر المسلم أو المسلمة الصلاة عمدًا، حتى يخرج وقتها، ثم يقال له: لا تقضي هذه الصلاة، ولو قضيتها ما قبلت منك، لكن هذا الذي تدل عليه النصوص الشرعية.
واختار هذا القول بعض الشافعية، وابن حزم، وشيخ الإسلام ابن تيميَّة، وتلميذه ابن القيم، والشوكاني، وصديق حسن خان، والشيخ محمد العثيمين، والألباني[1].
فهؤلاء الأعلام منَ المتَقَدِّمين والمتأخِّرين يرَون أن مَن تعمد تأخير الصلاة حتى خرج وقتها من غير عذر أنه لا يقضي، ولو قضى لم ينتفع بالقضاء، فلم تبرأ ذمته، فالواجب عليه التوبة، والإكثار من الأعمال الصالحة.
قال ابن حزم في "المحلى" (2/235): "مَن تعمَّد ترك الصلاة حتى خرج وقتها، فهذا لا يقدر على قضائها أبدًا، فليكثر من فعل الخير وصلاة التطوُّع، ليثقل ميزانه يوم القيامة، وليتب وليستغفر الله - عز وجل". اهـ.
وقال شيخ الإسلام في "الاختيارات" ص 34: "تارك الصلاة عمدًا لا يشرع له قضاؤها، ولا تصح منه، بل يُكثر من التطوُّع، وكذا الصوم، وهو قول طائفة من السلف: كأبي عبدالرحمن صاحب الشافعي، وداود وأتباعه، وليس في الأدلة ما يخالف هذا؛ بل يوافقه".اهـ.
وقال الشيخ محمد بن عثيمين في "اللقاء الشهري" (ج 77 / ص 1): لو أن الإنسان ترك الصلاة حتى خرج وقتها عمدًا بلا عذر، فهنا لا يقضي الصلاة؛ لأنه لو قضاها لم تقبلْ منه؛ قال النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «مَن عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد» أي: مردود عليه.اهـ.
فالأمر – إخوتي - ليس هينًا كما يظنه البعض، بل هو عند الله عظيم، فليَتَّق الله مَن يؤخِّر الصلاة متعمِّدًا، حتى يخرج وقتها، ولْيَتُب إلى ربه، وليحافظ على صلاته، وليحذر أن يكون داخلاً في عداد المذكورين في قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم: 59، 60].
إخوتي:
لا شك أنَّ مَن كان عنده إيمان إذا علم الحكم سوف ينْزجر، ويصَلِّي الصلاة في وقتها، فكيف يطيب للمسلم والمسلمة أن يتركوا الصلاة؟! وإن كان ترحل الإيمان من القلب فقد قيل:
مَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلاَمُ
معاشر الأولياء:
علينا مسؤولية عظيمة، فيجب علينا أن نعتني بمَن استرعانا الله عليهم من بنين وبنات وزوجات نعتني بصلاتهم في وقتها، ويزيد الذكور أن نتابعهم على صلاتهم في المسجد مع المسلمين.
[1] انظر: "المحلى" (2/235)، و"الاختيارات" ص 34، و"كتاب الصلاة وحكم تاركها" ص 73 - 80، "فتح الباري"؛ لابن رجب (5/133 - 139)، و"الدراري المضيئة" (1/249)، و"الروضة الندية" (1/335)، و"اللقاء الشهري" (ج 77 / ص 1)، و"الضعيفة" (3/414).
_____________________________________________
الكاتب: الشيخ أحمد الزومان
- التصنيف: