من الأظلم؟
الظلم لغة الجور ومجاوزة الحد، أما اصطلاحًا فيعرف بأنه التعدي على الحق؛ كما يعرف بأنه وضع الشيء في غير موضعه.
الظلم لغة الجور ومجاوزة الحد، أما اصطلاحًا فيعرف بأنه التعدي على الحق؛ كما يعرف بأنه وضع الشيء في غير موضعه.
وأعظم الظلم هو الشرك بالله - والعياذ بالله -: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
ومما استوقفني أنَّ هناك ثلاثَ عشرة آية بدايتها بصيغة الاستفهام الإنكاري "ومَن أظلم أو فمن أظلم ممن ..."، لبيان أنه لا أحد أظلم ممن فعل هذا الفعل، لكن الملاحظ والغريب والعجيب هو تنوع الفعل المذكور، فأصبحت في حيرةٍ، مَن هو الأظلم؟
جمعت الآيات ثم أعدت ترتيبها بناءً على الفعل الذي بعد قوله: "مَن أظلم ممن"، فكانت أربع مجموعات:
المجموعة الأولى:
1- {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 21].
2- {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الأنعام: 93].
3- {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 144].
4- {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ} [الأعراف: 37].
5- {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: 17].
6- {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18].
7- {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 68].
8- {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [الزمر: 32].
9- {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الصف: 7].
المجموعة الثانية:
1- {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 57].
2- {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة: 22].
المجموعة الثالثة:
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114].
المجموعة الرابعة:
{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 140].
وبالنظر والتأمل يتضحُ أن:
الظلم العظيم هو الإشراك بالله.
أما أظلم الناس فإنه يختلف باختلاف الفعل:
♦ فالأظلم في التكذيب: هو الكذب والافتراء على الله (الافتراء أخصُّ من الكذب، وأشدُّ قُبحًا؛ لأنه اختلاق الأخبار الكاذبة التي لا أصل لها، وهو كذبٌ في حق الغير بما لا يرتضيه، وأصله اللغوي القطع فهو قطع وترتيب للكذب بحيث تكون صورته الصدق) ويٌلحق به التكذيب بآيات الله وبالحق وبالصدق والادعاء كذبًا بأنه أوحي إليه من الله.
ومن جميل التعبير القرآني إضافة "إذ جاءه"؛ أي بعد إقامة الحُجة عليه، ومن الإبداع أيضًا إضافة "كذبًا" بعد الافتراء لتأكيد أنه كذب ليس له أصل البتة.
وصور الكذب والافتراء على الله لا يُمكن حصرها، ومنها قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116]، وهذه الصورة بَرزت في وسائل الإعلام بشكلٍ جلي نسأل الله العافية والسلامة.
♦ والأظلم في الإعراض هو الإعراض عن آيات الله بعد التذكير بها[1]، والإعراض هو الابتعاد والرفض ولو للتفكير في تلك الآيات ومراجعتها، وآيات الله نوعين: كونية (المبثوثة في الكون)، وشرعية وهي الوحي الرباني، فالأول يحقِّق الإيمان بوحدانية الخالق، واستحقاقه للعبودية، والثاني يبين الغاية من الخلق وطرق تحقيقها كما أمر الخالق.
فالذي يُعرض عن هذا كله سيكون بلا شك من أسوء أنواع ظلم الإعراض، فنتيجته الخسارة الكُبرى التي لا يمكن تعويضها.
♦ والثالث هو الأظلم في المنع، وهو المنع من مساجد الله ارتيادًا وأداءً ونصحًا وتوجيهًا وغير ذلك، ومن صور المنع التقنين غير المبني على الوحي الرباني.
لَما كانت المساجد مكان أداء أعظم الفرائض - بعد الشهادتين - كان المنع منها أعظم الظلم، ولعل إضافة "وسعى في خرابها"، ملازمة للمنع منها، فالذي يمنع يمارس الخراب لتلك المساجد فتُصبح مهجورةً جسديًّا أو معنويًّا.
♦ الرابع هو الأظلم في كتمان الشهادة، وهو كتمان الشهادة لدى العباد من الله، فهي شهادة مودعة عندهم من الله، لا من الخلق، وهذا يقتضي الاهتمام بإقامتها وإظهارها، فكتموها، ومن اللازم لذلك إظهار ضدها، فجمعوا بين كتم الحق، وعدم النطق به، وإظهار الباطل، والدعوة إليه.
أظن بعد هذا، انكشف أحد قوانين فهم القرآن وتحليل مصطلحاته ومفرداته، وما نسميه قانون تعدد الأفضلية: عند تعدد الأسوأ أو الأفضل في القرآن، لا يعني أنه على الإطلاق، وإنما ينبغي النظر إلى السياق.
والله أعلم
[1] لعلك – أخي القارئ- تفكر أسرار الاختلاف في "فأعرض عنها" وفي الآية الأخرى" ثمَّ أعرض عنها" !
______________________________
الكاتب: د. جمال يوسف الهميلي
- التصنيف: