وقفات مع القاعدة القرآنية: وتعاونوا على البر والتقوى

منذ 2021-11-21

والمقصود من اجتماع الناس وتعاشرهم التعاونُ على البر والتقوى، فيعين كل واحد صاحبه على ذلك علمًا وعملًا

وقفات مع القاعدة القرآنية:
 {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}  [المائدة: 2]
المقدمة
بسم الله، والحمد لله، أما بعد:
فهذه قاعدة من أعظم قواعد القرآن الكريم، وهي تشتمل على علم كثير، ونفعٍ كبير، ويُستدل بها على مسائلَ كثيرة لا تحصى، وقد وصف العلامة المفسر ابن جُزَيٍّ هذه الآية بأنها: وصية عامة. واللهَ أسأل أن ينفع بهذه الوقفات ويتقبلها.
الوقفة الأولى:
في دلالة الآية في الأمر بالتعاون على كل أنواع البِرِّ والخير وما فيه تقوى لله تعالى.
وأنواع البر والتقوى لا تحصر، فمن صورها:
التعاون في دفع المال، والتعاون في بذل النفس من دفع الصائل، والجهاد في سبيل الله، والتعاون في كف الظالم ونصرة المظلوم وردِّ الحقوق لأهلها، والإصلاح بين الناس والتعاون في تعليم الجاهل وبذل العلم، والتعاون في قضاء الحاجات وإعطاء المحتاج وإغاثة الملهوف، ومن ذلك إعانة ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والأرامل والعوانس، ومن ذلك أن تعين أحدهم في سداد الدَّين الذي عليه، ومن ذلك الهبة والعارية بين الناس، وإجابة الدعوى وتفطير الصائم وإطعام الطعام، والصلاة على الجنازة والمشي فيها وتعزية أهله، والمشاركة في عقد النكاح، وإعانة طالب العلم في طلبه، أو من يريد الزواج في زواجه، والنصيحة لكل مسلم والشورى بين المسلمين، ومن ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن ذلك التعاون على تقوى الله واجتناب ما حرمه تعالى، وهذا باب لا حصر له، ويجمع ذلك التعاونُ بين الناس على كل ما يحبه الله ويرضاه، من الأعمال الظاهرة والباطنة، من حقوق الله وحقوق الآدميين.
قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى في تفسيره على هذه الآية: يعني جل ثناؤه بقوله:  {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى }  [المائدة: 2] وليُعِنْ بعضكم، أيها المؤمنون، بعضًا على البر، وهو العمل بما أمر الله بالعمل به، والتقوى، هو اتقاء ما أمر الله باتقائه واجتنابه من معاصيه. انتهى.
وقال العلامة السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره على هذه الآية:
 { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } [المائدة: 2]؛ أي: ليعن بعضكم بعضًا على البر، وهو: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأعمال الظاهرة والباطنة، من حقوق الله وحقوق الآدميين. والتقوى في هذا الموضع: اسم جامع لتركِ كلِّ ما يكرهه الله ورسوله، من الأعمال الظاهرة والباطنة. انتهى.
الوقفة الثانية:
في دلالة الآية في النهي عن التعاون على كل ما فيه إثمٌ وعُدْوان.
وصور ما فيه إثم وعدوان كثيرة:
فمن صور التعاون على الإثم: التعاونُ على شرب الخمر وبيعها، أو بيع السجائر التي تضر في صحة الإنسان، أو بيع آلات المعازف والطرب، أو تأجير مكان من أجل أن يُعمل فيه بمعصية الله تعالى، أو التعاون على مال فيه ربا، أو بغير ذلك من المعاصي الفعلية والقولية، ويدخل في الآية التعاونُ على كل ما فيه معصية لله تعالى.
ومن صور التعاون على العُدْوان، وهو ما فيه تعدٍّ: الإعانة على الشرك بالله تعالى، أو الإعانة على البدعة، أو الإعانة في طباعة كتب سِحر وضلالة، أو الإعانة في قتل معصوم الدم ولو بكلمة، أو بيع سلاح لمن يقتل به مسلمًا، أو شراء مال مسروق من سارقه، أو حماية جانٍ من أن تناله العدالة، أو نصرة الظالم والدفاع عنه، وغير ذلك من التعاون على العدوان على الخلق في أموالهم أو دمائهم أو أعراضهم، ويدخل في ذلك كلُّ عدوانٍ على حقوق الله تعالى أو حقوق العباد.
قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى في تفسيره على هذه الآية:
وقوله: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] يعني: ولا يُعِنْ بعضكم بعضًا على الإثم، يعني: على ترك ما أمَرَكم الله بفعله، والعدوان، يقول: ولا على أن تتجاوزوا ما حدَّ الله لكم في دينكم، وفرض لكم في أنفسكم وفي غيركم. انتهى.
وقال العلامة السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره على هذه الآية:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ }وهو التجرؤ على المعاصي التي يأثم صاحبها ويحرج. {وَالْعُدْوَانِ } وهو التعدي على الخَلْق في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فكل معصية وظلمٍ يجب على العبد كفُّ نفسه عنه، ثم إعانة غيره على تركه. انتهى.
الوقفة الثالثة:
في دلالة الآية على أن التعاون على البر والتقوى، وترك التعاون على الإثم والعدوان - يقي العبدَ من عقاب الله الذي هو العقاب الشديد؛ لذلك ختم الله سبحانه هذه الآية بقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2].
قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى في تفسيره على هذه الآية:
وهذا وعيد من الله جل ثناؤه وتهدُّدٌ لمن اعتدى حدَّه وتجاوز أمره.
يقول عز ذكره: { وَاتَّقُوا اللَّهَ } يعني: واحذروا الله، أيها المؤمنون، أن تلقوه في معادكم وقد اعتديتم حدَّه فيما حدَّ لكم، وخالفتم أمره فيما أمركم به، أو نهيَه فيما نهاكم عنه، فتستوجبوا عقابه، وتستحقوا أليم عذابه. ثم وصف عقابه بالشدة فقال عز ذكره: إن الله شديدٌ عقابه لمن عاقبه من خلقه؛ لأنها نار لا يطفأ حَرُّها، ولا يخمد جمرها، ولا يسكن لهبها، نعوذ بالله منها، ومن عملٍ يقرِّبنا منها. انتهى.
وقال العلامة السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره على هذه الآية:
{وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}على من عصاه وتجرَّأ على محارمه، فاحذروا المحارم لئلا يحلَّ بكم عقابه العاجل والآجل. انتهى.
الوقفة الرابعة:
وهي أمثلة من أمثلة كثيرة على هذه القاعدة من فتاوى العلماء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
فأما إن باعهم أو باع غيرهم ما يعينهم به على المحرَّمات؛ كبيع الخيل والسلاح لمن يقاتل به قتالًا محرَّمًا، فهذا لا يجوز، قال الله عز وجل: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: ٢]، وفي السنن عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: (أنه لعَنَ في الخمر عشرة: لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها، وساقيها، وشاربها، وآكل ثمنها)، وقد لعن العاصر، وهو إنما يعصر عنبًا يصير عصيرًا، والعصير يمكن أن يُتَّخَذَ خَلًّا وَدِبْسًا وغير ذلك، لكن لما علم قصده من العصير: أنه يتخذه خمرًا، وأعانه على ذلك، لعنه النبيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم على ذلك.
كتاب المسائل الماردينية (ص٢٥١ ).
قال العلامة ابن باز رحمه الله تعالى:
فإذا كنت في حاجة أخيك في الزواج أو أختك أو بنتك، فأنت على خيرٍ عظيم، أو ابن أخيك، ويقول جلَّ وعلا: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}، فالتعاون على الزواج من التعاون على البر والتقوى، نسأل للجميع التوفيق والهداية. فتاوى نور على الدرب (١٦/٢٠).
وجاء في فتاوى العلامة ابن باز رحمه الله تعالى، قوله: لا يجوز لكم ولا لغيركم بيعُ الصحف والمجلات المشتملة على الصور النسائية أو المقالات المخالفة للشرع المطهر؛ لقول الله سبحانه:  {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. مجموع فتاوى ابن باز (٧٩/١٩).
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة:
س: حكم طلب المساعدة في بناء المسجد؟
ج: يجوز ذلك؛ لأن هذا من التعاون على البر والتقوى، قال تعالى:  {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} . فتاوى اللجنة الدائمة (٢٤٥/٦).
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة قولهم:
لا يحل العمل في البنوك التي تتعامل بالربا؛ لأن في هذا عونًا لها على الإثم والعدوان، وقد قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ }، والكسب الحاصل عن ذلك كسب خبيث. فتاوى اللجنة الدائمة (١٩٦/١٨).
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة:
س: المسلم الذي وظيفته بناء، هل يجوز له أن يبنيَ كنيسة للكفار؟
ج: لا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبنيَ كنيسة أو محلًّا للعبادة ليس مؤسَّسًا على الإسلام الذي بعث الله به محمدًا؛ لأن ذلك من أعظم الإعانة على الكفر، وإظهار شعائره، والله عز وجل يقول:  {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } . فتاوى اللجنة الدائمة (٤٨٢/١٤).
الخاتمة:
يقول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى:
والمقصود من اجتماع الناس وتعاشرهم التعاونُ على البر والتقوى، فيعين كل واحد صاحبه على ذلك علمًا وعملًا.
فان العبد وحده لا يستقل بعلم ذلك ولا بالقدرة عليه، فاقتضت حكمة الرب سبحانه أن جعل النوع الإنساني قائمًا بعضه ببعضه، معينًا بعضه لبعضه. الرسالة التبوكية (ص، ١٠).
فعلى المسلم أن يسعى دائمًا في التعاون على البر والتقوى في كل قول وعمل واعتقاد، وأن يسعى دائمًا في ترك التعاون على الإثم والعدوان في كل قول وعمل واعتقاد.
والله أسأل أن يجعلنا كذلك إلى يوم نلقاه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتبها : يزن الغانم

  • 1
  • 0
  • 3,346

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً