أنرجع للحق أم نتمادى في الباطل؟!

منذ 2021-12-20

من أسباب التمادي في الخطأ: ما أوتيه بعض الناس من قوة في الجدل وشدة في الخصومة، وطول عناد، ودوام لجاجة، ولحن في القول، وقدرة على الإقناع ولو بالباطل؛ قال - سبحانه -: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}

أما بعد:
فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29].

أيها المسلمون:
الخطأ في حياة الناس أمرٌ وارد، وطبيعة غير مستنكرة؛ فليسوا بملائكة مُقرَّبين لا يعصون، ويفعلون ما يؤمرون، وما هم بأنبياء مُنزَّهين، ولا مرسلين معصومين، ولا يستطيع أيُّ إنسانٍ مهما علا شأنه أن يدَّعي العصمة لنفسه، ولا يقدر امرؤ مهما بَلَغَ من العلم والتقوى، وحسن الخلق أن يزكِّي نفسه، ويتبرَّأ من خطئه، وصدق - صلى الله عليه وسلم - حين قال: «كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوَّابون»، فالخطأ - إذًا - واقعٌ لا محالة، والزلل حاصل ولا بد، ومن ثمَّ فإن الخطأ الحقيقي إنما هو التمادي في الخطأ، والإصرار على الزلل، وعدم الاعتراف بالتقصير، والجدال عن النفس بالباطل، وتمحُّل المعاذير ولو بالزور، واعتبار الرجوع إلى الصواب نقيصة للذات أو حطًّا من القَدْرِ، تلكم هي قاصمة الظهور وبليَّة البلايا، والتي رُفِعت بسببها خيرات، ونُزعت بركات، ونزلت جرَّاءها ابتلاءات، وحلَّت نكبات، وفسدت بشؤمها وشائج، وقُطعت علائق،

ولنعلم خطر هذا الأمر، وسيِّئ أثره على صاحبه، فيكفينا أن نسمع ما صح عنه - عليه الصلاة والسلام - حيث قال: «إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعةٍ، حتى يدع بدعته»، فربُّنا - جل وعلا - وهو التواب الرحيم الغفور الودود، الذي يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل - قد حجب التوبة عن صاحب البدعة ولم يقبلها منه، لماذا؟ لأنه مفتون بها، مصرٌّ عليها، معجبٌ بها، لا يقرُّ بخطئه، ولا يعترف بزلَّته، بل يرى نفسه على صواب، ويعتقد أنه على صراط مستقيم، فلماذا لا نعترف بأخطائنا - أيها المسلمون - من حين أن نقعَ فيها؛ لنعود؟ لماذا لا نفكر في التراجع عنها مباشرةً؛ لنغسل درنها ونمحو أثرها؟ لماذا تذهب عقولنا بعد الخطأ إلى تلمُّس المعاذير وتمحلها؟! 

لماذا ينصبُّ تفكيرنا على البحث عن الحجج وإن كانت واهيةً؛ لنسوِّغ لأنفسنا الاستمرار والتمادي؟! أكل هذا تكبُّرًا وغرورًا، وعلوًّا، وإصرارًا؟! ألم نعلم أن الأبوين - عليهما السلام  - أخطأ فأقرَّا بالزلة، واعترفا بالتقصير، فغفر الله لهما، وتاب عليهما؟! وأن إبليس عصى واستكبر وأبى، فأحل الله عليه لعنته إلى يوم الدين، وجعله إمامًا لأهل النار وقائدًا لحصب جهنم؟! إنه من أخطر الأمراض التي ابتُلي بها المجتمع في السنوات المتأخِّرة بصورة عامَّةٍ وخاصة، أن يخطئ المرء؛ إما عن غفلة ونسيان، أو عن ضَعف وجبلّة، أو حتى عن تعمُّد وإصرار، ثم لا يفكر في الرجوع والأوبة، بل يُسارع إلى تسويغ خطئه بكلِّ ما أُوتي، ولا يهتم بأنه قد انحرف عن الطريق المستقيم وجانبه، وأن واجبه الذي لا خيار له فيه، إنما هو الرجوع إلى جادة الصواب، والعودة للحقِّ الذي هو أحق أن يُتَّبع، ولو ذهبنا نبحث عن أسباب هذه الظاهرة السيِّئة، ونضع العلاج لهذا المرض الخطير، لوجدنا أسبابًا متعددة، ولألفينا في كتاب الله وسنَّة رسوله الحل الأمثل لمن وفَّقه الله وسدده.

فمن تلك الأسباب:
ضعف الإيمان، وخلل التصوُّر، والزهد في الأجر، وقلة التفكير في العواقب، أما المؤمن الذي عرف نفسه حقَّ معرفتها، وأقرَّ بضعفها، واعترف بعجزها، فإنه على يقين أنه إما أن يتوب ويرجع عن خطئه، ويعتذر عما بدر منه، فيتوب الله عليه ويعذره الآخرون، وتُطَهَّر قلوبهم عليه، ويمحو اعتذاره ما قد يكون حاك في الصدور ضده، وإما أن يتمادى في غيِّه، ويصرَّ على إساءته، فتتكاثر بذلك سيئاته وتعظم، ويظلم فؤاده، ويقسو قلبه، ومن ثم تتسع الفجوة بينه وبين الآخرين، فلا ينتج عن ذلك إلا العداوة، والبغضاء، والنفرة، والشحناء، مع ما يتبعها من تكدُّر، وهمٍّ، وغمٍّ، وأمراض نفسيَّة، وقلق دائمٍ، وضيق في الحياة، وضنك في المعيشة.

وعلى هذا؛ فإن إيمان العبد بأنه إذا تاب تاب الله عليه، وأن الله يبدل سيئات المسيء إذا تاب حسنات، ويرفعه بذلك درجات، وأنه إذا تراجع صقل قلبه، وأنه ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، ولا تواضع أحد لله إلا رفعه، إن كل ذلك لمما يحدو نفوس العارفين إلى المسارعة بالتوبة والبدار بالاعتذار، والحذر من التمادي والإصرار.

ومن أسباب التمادي في الخطأ: ما أوتيه بعض الناس من قوة في الجدل وشدة في الخصومة، وطول عناد، ودوام لجاجة، ولحن في القول، وقدرة على الإقناع ولو بالباطل؛ قال - سبحانه -: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54]، وإن للمجتمع دورًا كبيرًا في تشجيع مثل هذه الصفات، حيث يعجبون بكل ذي حجة، ويمدحون الشديد في الخصومة، وما علموا أن مثل هذا قد أساء إلى نفسه قبل أن يسيء إلى غيره، وأن الله - تعالى - قد مقته والنبي - عليه السلام - قد ذمَّه؛ قال - سبحانه -: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما ضل قوم بعد هُدى كانوا عليه، إلا أوتوا الجدل»، ثم قرأ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا} [الزخرف: 58]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم»، كم من مشكلات تحدث بين اثنين، فتتضاعف نتائجها، وتسوء الأحوال فيها، وتتعقد الأمور، وقد كان أيسر علاج لها وأقرب طريق لحلها، هو الاعتراف بالخطأ، والمبادرة بالاعتذار، والشهادة بالحقِّ ولو على النفس، بدلاً من الخصام واللجاجة والمِراء؛ قال - سبحانه -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135].

ومن أسباب التمادي في الخطأ ورد الحق: الكبر والتعالي؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «(لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبْر»، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنًا، قال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس»؛ (رواه مسلم)، ومعنى "بطر الحق": دفعه وردُّه على قائله، وعدم الاعتراف به، ومعنى "غمط الناس": احتقارهم، ولا ترى المتكبِّر إلا معتدًّا برأيه متعصبًا له، لا يقبل بغيره وإن كان أصح وأصوب، أما المتواضع، فإن تواضعه يحمله على قبول الرأي الآخر، وتقديره والثناء عليه متى كان صوابًا؛ ذلك أنه لا يقدِّس نفسه فيدعي لها العصمة من الخطأ، ولا يستخف بآراء الآخرين، أو يسفهها؛ ليخفي أخطاءه ويعمي الأعين عن مشاهدتها، بل إن له في حياته محطَّات يراجع فيها نفسه، ووقفات يصحِّح فيها مساره؛ حتى لا يسترسل في خطأ وقع فيه، أو يستمر في هوًى انساق إليه.

ألا فاتقوا الله - أيها المسلمون - واحذروا التمادي في الخطأ والباطل، وكونوا رجَّاعين للحقِّ، مؤثرين له ولو على أنفسكم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].

أما بعد:
فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أن من أسباب استفحال الخطأ والتمادي فيه: التصرُّف في حال الغضب دون تعقُّل وتفكُّر، والاسترسال مع شياطين الجن والإنس فيما يملونه، وترك المجال للسان؛ لينطلق في تلك الحال بالسبِّ أو ينفلت بالتعيير، أو يكيل من الكلام أسوأه وأفحشه، وقد تبلغ قوة الغضب ببعض الناس إلى أن يتصرَّف تصرفات يندم عليها بعد هدوئه، لكنه لا يقدر أن يعالج نتائجها بتلك السهولة؛ لأنها تكون قد طعنت قلوبًا كثيرة، فغضبت هي الأخرى، فيكابر كل من جانبه، وتتعقَّد الأمور ويتمادى السفه بأهله، ثم لعلَّها لا تعود الأمور بعد ذلك إلى مجاريها، إلا بعد وقت طويل، أو بعدما يريق الطرفان ماء الوجوه، ويبذل من المال والجاه ما يبذل، وهنا تأتي بعض الأعراف الاجتماعيَّة، أو العادات القبليَّة الجاهليَّة، فتزيد الأمور سوءًا وتعقيدًا، وتُدْخل في المشكلات مع أصحابها أقاربهم وجيرانهم ومن حولهم، ويطول بها ما كان قصيرًا، ويكبر ما كان صغيرًا، ولو أن المخطئ استعاذ بالله من الشيطان حين أخطأ وبادر إلى الاعتذار، لذهب الشيطان بعيدًا ولزال ما في النفوس؛ فعن سليمان بن صرد - رضي الله عنه - قال: "استبَّ رجلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل أحدهما يغضب ويحمر وجهه، وتنتفخ أوداجه، فنظر إليه النبي - صلى الله عليه وسلم  -  فقال: «إني لأعلم كلمةً لو قالها، لذهب ذا عنه، "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» (الحديث رواه البخاري ومسلم).

ألا فاتقوا الله - تعالى - واحذروا الغضب والكبر، وتواضعوا ولينوا للحقِّ، فإن الرجوع للصواب والحقِّ خير من التمادي في الخطأ والباطل.

  • 3
  • 0
  • 2,004

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً