المنتقى من كتاب " إحياء علوم الدين " للإمام الغزالي - ذم الحسد

منذ 2022-01-22

فهذه الأدوية العلمية فمهما تفكر الإنسان فيها بذهن صاف, وقلب حاضر, انطفأت نار الحسد من قلبه, وعلم أنه مهلك نفسه, ومفرح عدوه, ومسخط ربه, ومنغص عيشه.

المنقى من كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي:

اعلم أن الحسد من نتائج الحقد, والحقد من نتائج الغضب, فهو فرع فرعه, والغضب أصل أصله, ثم إن للحسد من الفروع الذميمة ما لا يكاد يحصى.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( لا تحاسدوا, ولا تقاطعوا, ولا تباغضوا, ولا تدابروا, وكونوا عباد الله إخواناً )» وقال عليه الصلاة والسلام: «( إنه سيصيب أمتي داء الأمم ) قالوا: وما داء الأمم ؟ قال: ( الأشر والبطر والتكاثر, والتنافس في الدنيا, والتباعد والتحاسد, حتى يكون الغي ثم الهرج ) »

وقال أبو الدرداء: ما أكثر عبد ذكر الموت, إلا قلّ فرحه, وقل حسده.

وقال معاوية: كل الناس أقدر على رضاه, إلا حاسد نعمة, فإنه لا يرضيه إلا زوالها.

قال أعرابي: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من حاسد, إنه يرى النعمة عليك نقمة.

وقال الحسن: ابن آدم لم تحسد أخاك ؟ فإن كان الذي أعطاه لكرامته عليه, فلم تحسد من أكرمه الله ؟ وإن كان غير ذلك فلم تحسد من مصيره إلى النار

حقيقية الحسد:

اعلم أنه لا حسد إلا على نعمة, فإذا أنعم الله على أخيك بنعمة, فلك فيها حالتان:

إحداهما: أن تكره تلك النعمة وتحب زوالها, وهذه الحالة تسمى حسداً.

الثانية: أن لا تحب زوالها ولا تكره وجودها ودوامها ولكن تشتهي مثلها وهذه غبطة

فأما الأول فحرام بكل حال, إلا نعمة أصابها فاجر أو كافر وهو يستعين بها على تهيج الفتنة, وإفساد ذات البين, وإيذاء الخلق.

وأما المنافسة فليست بحرام, والذي يدل على إباحة المنافسة, قوله تعال: {( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) } [المطففين:26]

 

أسباب الحسد والمنافسة:

أما المنافسة فسببها حب ما فيه المنافسة, فإن كان ذلك أمراً دينياً فسببه حب الله تعالى, وحب طاعته, وإن كان دنيوياً فسببه حبّ مباحات الدنيا والتنعم بها.

والحسد المذموم مداخله كثير جداً....لكن يحصر جملتها...أسباب:

السبب الأول: العداوة والبغضاء, وهذ أشد أسباب الحسد, فإن من آذاه شخص بسبب من الأسباب, وخالفه في غرض بوجوه من الوجوه, أبغضه قلبه, وغضب عليه, ورسخ في نفسه الحقد. والحقد يقتضي التشفي والانتقام,...والحسد بسبب البغض.

السبب الثاني: الكبر, وهو أن يكون في طبعه أن يتكبر عليه ويستصغره, ويستخدمه, ويتوقع منه الانقياد له, والمتابعة في أغراضه, فإذا نال نعمة خاف أن لا يتجمل تكبره, ويترفع عن متابعته, أو ربما تشوف إلى مساواته, أو إلى أن يرتفع عليه, فيعود مُتكبراً, بعد أن كان مُتكبراً عليه.

السبب الثالث: الخوف من فوت المقصود, وذلك يختص بمتزاحمين على مقصود واحد, ومن هذا الجنس تحاسد الضرات في التزاحم على مقاصد الزوجية, وتحاسد الإخوة في التزاحم على نيل المنزلة في قلب الأبوين, للتوصل به إلى مقاصد الكرامة والمال, وكذلك تحاسد التلميذين لأستاذ واحد في نيل المرتبة من قبل الأستاذ.

السبب الرابع: حب الرياسة وطلب الجاه لنفسه من غير توصل إلى مقصود, وذلك كالرجل الذي يريد أن يكون عديم النظر في فن من الفنون,...فإنه لو سمع بنظير له في أقصى العالم لساءه ذلك, وأحبّ موته, أو زوال النعمة عنه التي بها يشاركه المنزلة

السبب الخامس: خبث النفس وشحها بالخير لعباد الله تعالى.

 

دواء الحسد:

اعلم أن الحسد من الأمراض العظيمة للقلوب. ولا تداوى أمراض القلوب إلا بالعلم والعمل. والعلم النافع لمرض الحسد أن تعرف تحقيقاً أن الحسد ضرر عليك في الدنيا والدين, وأنه لا ضرر فيه على المحسود في الدنيا والدين, بل ينتفع به فيهما, ومهما عرفت هذا عن بصيرة, ولم تكن عدو نفسك وصديق عدوك فارقت الحسد لا محالة, أما كونه ضرراً عليك في الدين فهو أنك بالحسد سخطت قضاء الله تعالى, وكرهت نعمته التي قسمها بين عباده, وعدله الذي أقامه في ملكه بخفي حكمته, فاستنكرت ذلك واستبشعته وهذا جناية على الدين وقد انضاف إلى ذلك أنك غششت رجلاً من المؤمنين وتركت نصيحته وفارقت أولياء الله وأنبياءه في حبهم الخير لعباده تعالى, وشاركت إبليس وسائر الكفار في محبتهم للمؤمنين البلايا, وزوال النعم, وهذه خبائث في القلب, تأكل حسنات القلب كما تأكل النار الحطب.

وأما كونه ضرراً عليك في الدنيا فهم أنك تتألم بحسدك في الدنيا, أو تتعذب به, ولا تزال في كمد, وغم, إذ أعداؤك لا يخليهم الله تعالى عن نعم يفيضها عليهم, فلا تزال تتعذب بكل نعمة تراها, وتتألم بكل بلية تنصرف عنهم, فتبقى مغموماً, محروماً, متشعب القلب, ضيق الصدر, قد نزل بك ما يشتهيه الأعداء لك, وتشتهيه لأعدائك, فقد كنت تريد المحنة لعدوك, فتنجزت في الحال محنتك, وغمك نقداً.  ومع هذا فلا تزول النعمة عن المحسود بحسدك. ولو لم تكن تؤمن بالبعث والحساب لكان مقتضى الفطنة إن كنت عاقلاً أن تحذر من الحسد, لما فيه من ألم القلب مع عدم النفع, فكيف وأنت عالم بما في الحسد من العذاب الشديد في الآخرة؟ فما أعجب من العاقل كيف يتعرض لسخط الله من غير نفع يناله بل مع ضرر يحتمله.

وأما أنه لا ضرر على المحسود في دينه ودنياه فواضح, لأن النعمة لا تزول عنه بحسدك, بل ما قدره الله تعالى من إقبال ونعمة فلا بد أن يدوم ,إلى أجل غير معلوم, قدره الله سبحانه, فلا حيلة في دفعه, بل كل شيء عنده بمقدار, ولكل أجل كتاب.

ولعلك تقول: ليت النعمة كانت تزول عن المحسود بحسدي, وهذا غاية الجهل فإنه بلاء تشتهيه أولاً لنفسك, فإنك لا تخلو عن عدو يحسدك, فلو كانت النعمة تزول بالحسد لم يبق الله تعالى عليك نعمة, ولا على أحد من الخلق, ولا نعمة الإيمان أيضاً, لأن الكفار يحسدون المؤمنين على الإيمان, قال الله تعالى: {( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم )} [البقرة:109] إذ ما يريد الحسود لا يكون, نعم هو يضلّ بإرادته الضلال لغيره.

وإن اشتهيت أن تزول النعمة عن الخلق بحسدك, ولا تزول عنك بحسد غيرك, فهذا في غاية الجهل والغباوة, فإن كل واحد من حمقى الحساد أيضاً يشتهى أن يختص بهذه الخاصية, ولست بأولى بغيرك. فنعمة الله تعالى عليك في إن لم تزل النعمة بالحسد, مما يجب عليك شكرها, وأنت بجهلك تكرهها.

وأما أن المحسود ينتفع به في الدين والدنيا فواضح, أما منفعته في الدين: فهو أنه مظلوم من جهتك لا سيما إذا أخرجك الحسد إلى القول, والفعل بالغيبة, والقدح فيه وهتك ستره, وذكر مساويه, فهذه هدايا تهديها إليه. أعنى أنك تهدي إليه حسناتك.

وأما منفعته في الدنيا فهو أن أهم أغراض الخلق مساءة الأعداء, وغمهم وشقاوتهم, وكونهم معذبين مغمومين, ولا عذاب أشد مما أنت فيه من ألم الحسد, وغاية أماني أعدائك أن يكونوا في نعمة, وأن تكون في غمّ وحسرة بسببهم, وقد فعلت بنفسك ما هو مرادهم.

ولذلك لا يشتهي عدوك موتك, بل يشتهي أن تطول حياتك, ولكن في عذاب الحسد لتنظر إلى نعمة الله عليه, فينقطع قلبك حسداً.

ففرح عدوك بغمك وحسدك أعظم من فرحته بنعمته, ولو علم خلاصك من ألم الحسد وعذابه لكان ذلك أعظم مصيبة وبلية عنده, فإذا تأملت هذا عرفت أنك عدو نفسك, وصديق عدوك, إذ تعاطيت ما تضررت به في الدنيا والآخرة, وانتفع به عدوك في الدنيا والآخرة. وصرت مذموماً عند الخالق والخلائق, شقياً في الحال والمآل, ونعمة المحسود دائمة, شئت أم أبيت. ثم لم تقتصر على تحصيل مراد عدوك حتى وصلت إلى إدخال أعظم سرور على إبليس الذي هو أعدى أعدائك, لأنه لما رآك محروماً من نعمة العلم والورع والجاه والمال الذي اختص به عدوك عنك, خاف أن تحب ذلك له فتشاركه في الثواب بسبب المحبة, لأن من أحب الخير للمسلمين كان شريكاً في الخير, ومن فاته اللحاق بدرجة الأكابر في الدنيا لم يفته ثواب الحب لهم مهما أحب ذلك, فخاف إبليس أن تحب ما أنعم الله به على عبده من صلاح دينه ودنياه فتفوز بثواب الحب, فبغضه إليك حتى لا تلحقه بحبك كما لم تلحقه بعملك.

فهذه الأدوية العلمية فمهما تفكر الإنسان فيها بذهن صاف, وقلب حاضر, انطفأت نار الحسد من قلبه, وعلم أنه مهلك نفسه, ومفرح عدوه, ومسخط ربه,  ومنغص عيشه.

فهذه هي أدوية الحسد, وهي نافعة جداً, إلا أنها مرة على القلوب جداً, ولكن النفع في الدواء المرّ. فمن لم يصبر على مرارة الدواء, لم ينل حلاوة الشفاء.

          كتبه/ فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ

  • 3
  • 0
  • 1,908
المقال السابق
ذم الحقد
المقال التالي
ذم الدنيا

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً