قصة داود عليه السلام مختصرة
من أين دخل هذا الرجل والدار مغلقة ؟ والله لتفتضحن بداود . فجاء داود ، فإذا الرجل قائم وسط الدار ، فقال له داود : من أنت ؟ قال : أنا الذي لا أهاب الملوك ولا يمتنع مني شيء
اختصرت قصة داود عليه السلام من السفر العظيم (البداية والنهاية) للحافظ ابن كثير هذا الرجل المبارك الذي نفع الله التاريخ الإسلامي بعلمه وفتح الله صدور المسلمين لتفسيره ونقله.
قال الحافظ رحمه الله في البداية والنهاية :
قال محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه ، كان داود ، عليه السلام ، قصيرا ، أزرق العينين ، قليل الشعر ، طاهر القلب نقيه . تقدم أنه لما قتل جالوت ، وكان قتله له - فيما ذكر ابن عساكر - عند قصر أم حكيم بقرب مرج الصفر . فأحبته بنو إسرائيل ومالوا إليه وإلى ملكه عليهم ، فكان من أمر طالوت ما كان وصار الملك إلى داود ، عليه السلام ، وجمع الله [ ص: 301 ] له بين الملك والنبوة ، بين خيري الدنيا والآخرة ، وكان الملك يكون في سبط ، والنبوة في سبط آخر ، فاجتمع في داود هذا وهذا ، كما قال تعالى : {وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين} [ البقرة : 251 ]
ذكر ابن جرير في " تاريخه " : أن جالوت لما بارز طالوت ، فقال له : اخرج إلي أو أخرج إليك فندب طالوت الناس ، فانتدب داود ، فقتل جالوت, وآتاه الله الملك.
وقال تعالى : {ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير } [ سبأ : 10 ، 11 ] .
وقال تعالى : {وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون } [ الأنبياء : 79 ، 80 ] . أعانه الله على عمل الدروع من الحديد ; ليحصن المقاتلة من الأعداء ، وأرشده إلى صنعتها وكيفيتها ، فقال : {وقدر في السرد} أي : لا تدق المسمار فيقلق ، ولا تغلظه فيفصم . قاله مجاهد ، وقتادة ، والحكم ، وعكرمة ، وغيرهم . قال الحسن البصري ، وقتادة ، والأعمش : كان الله قد ألان له الحديد حتى كان يفتله بيده ، لا يحتاج إلى نار ولا مطرقة . قال قتادة : فكان أول من عمل الدروع من زرد ، [ ص: 303 ] وإنما كانت قبل ذلك من صفائح . قال ابن شوذب : كان يعمل كل يوم درعا يبيعها بستة آلاف درهم . وقد ثبت في الحديث الصحيح : أن أطيب ما أكل الرجل من كسبه ، وإن نبي الله داود كان يأكل من كسب يده .
وقال تعالى : {واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب} [ ص : 17 - 20 ] . قال ابن عباس ، ومجاهد : الأيد : القوة في الطاعة . يعني : ذا قوة في العبادة والعمل الصالح . قال قتادة : أعطي قوة في العبادة وفقها في الإسلام . قال : وقد ذكر لنا أنه كان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر .
وقد ثبت في " الصحيحين " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «أحب الصلاة إلى الله صلاة داود ، وأحب الصيام إلى الله صيام داود ; كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ، وكان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى» وقوله : {إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب } كما قال : {يا جبال أوبي معه والطير } أي : [ ص: 304 ] سبحي معه . قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد في تفسير هذه الآية { إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق } أي : عند آخر النهار وأوله ; وذلك أنه كان الله تعالى قد وهبه من الصوت العظيم ما لم يعطه أحدا ، بحيث إنه كان إذا ترنم بقراءة كتابه ، يقف الطير في الهواء ، يرجع بترجيعه ويسبح بتسبيحه ، وكذلك الجبال تجيبه ، وتسبح معه ، كلما سبح بكرة وعشيا ، صلوات الله وسلامه عليه ،
عن عائشة ، قالت : سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت أبي موسى الأشعري وهو يقرأ ، فقال لقد أوتي أبو موسى من مزامير آل داود وهذا على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه من هذا الوجه .
وقوله تعالى : {وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب} [ ص : 20 ] . أي : أعطيناه ملكا عظيما وحكما نافذا .
روى ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، أن رجلين تداعيا إلى داود - عليه السلام - في بقر ، ادعى أحدهما على الآخر أنه اغتصبها منه ، فأنكر المدعى عليه ، فأرجأ أمرهما إلى الليل ، فلما كان الليل ، أوحى الله إليه أن يقتل المدعي ، فلما أصبح قال له داود : إن الله قد أوحى إلي أن أقتلك ، فأنا قاتلك لا محالة فما خبرك فيما ادعيته على هذا ؟ قال : والله يا نبي الله إني لمحق فيما ادعيت عليه ، [ ص: 308 ] ولكني كنت اغتلت أباه قبل هذا فقتلته . فأمر به داود فقتل ; فعظم أمر داود في بني إسرائيل جدا ، وخضعوا له خضوعا عظيما . قال ابن عباس : فهو قوله تعالى : {وشددنا ملكه } وقوله تعالى : {وآتيناه الحكمة } ، أي النبوة . { وفصل الخطاب} قال شريح ، والشعبي ، وقتادة ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، وغيرهم {وفصل الخطاب } الشهود والأيمان . يعنون بذلك البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر . وقال مجاهد ، والسدي : هو إصابة القضاء وفهمه . وقال مجاهد : هو الفصل في الكلام وفي الحكم .
[ ص: 309 ] قال تعالى : {وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب } [ ص : 21 - 25 ] .
قال الله تعالى : {فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب } [ ص : 25 ] . أي : وإن له يوم القيامة لزلفى ، وهي القربة التي يقربه الله بها ، ويدنيه من حظيرة قدسه بسببها ، كما ثبت في الحديث : المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين ، الذين يقسطون في أهليهم وحكمهم وما ولوا .
قوله تعالى : {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب } هذا خطاب من الله تعالى مع داود والمراد : ولاة الأمور وحكام الناس ، وأمرهم بالعدل واتباع الحق المنزل من الله لا ما سواه من الآراء والأهواء ، وتوعد من سلك غير ذلك وحكم بغير ذلك ، وقد كان داود ، عليه السلام ، هو المقتدى به في ذلك الزمان ، في [ ص: 314 ] العدل وكثرة العبادة وأنواع القربات ، حتى إنه كان لا تمضي ساعة من آناء الليل وأطراف النهار إلا وأهل بيته في عبادة ليلا ونهارا ، كما قال تعالى : { اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور } [ سبأ : 13 ] .
وقال محمد بن سعد : أنبأنا محمد بن عمر الواقدي ، حدثني هشام بن سعد ، عن عمر مولى غفرة ، قال : قالت يهود لما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوج النساء : انظروا إلى هذا الذي لا يشبع من الطعام ، ولا والله ما له همة إلا إلى النساء . حسدوه لكثرة نسائه ، وعابوه بذلك فقالوا : لو كان نبيا ما رغب في النساء . وكان أشدهم في ذلك حيي بن أخطب ، فأكذبهم الله وأخبرهم بفضل الله وسعته على نبيه ، صلوات الله عليه وسلامه فقال : {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله } [ النساء : 54 ] . يعني بالناس : [ ص: 317 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم {فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما } [ النساء : 54 ] . يعني ما آتى الله سليمان بن داود ، كانت له ألف امرأة : سبعمائة مهيرة وثلاثمائة سرية . وكانت لداود ، عليه السلام ، مائة امرأة منهن امرأة أوريا أم سليمان بن داود ، التي تزوجها بعد الفتنة ، هذا أكثر مما لمحمد صلى الله عليه وسلم . وقد ذكر الكلبي نحو هذا ، وأنه كان لداود ، عليه السلام ، مائة امرأة ولسليمان ألف امرأة ، منهن ثلاثمائة سرية .
وروى الحافظ في " تاريخه " في ترجمة صدقة الدمشقي الذي يروي عن ابن عباس ، من طريق الفرج الحمصي عن أبي هريرة الحمصي ، عن صدقة الدمشقي أن رجلا سأل ابن عباس عن الصيام فقال : لأحدثنك بحديث كان عندي في التخت مخزونا ، إن شئت أنبأتك بصوم داود فإنه كان صواما قواما وكان شجاعا لا يفر إذا لاقى وكان يصوم يوما ويفطر يوما ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفضل الصيام صيام داود وكان يقرأ الزبور بسبعين صوتا يلون فيها ، وكانت له ركعة من الليل يبكي فيها نفسه ، ويبكي ببكائه كل شيء ، ويطرب بصوته المهموم والمحموم . وإن شئت أنبأتك بصوم ابنه سليمان ; فإنه كان يصوم من أول الشهر ثلاثة أيام ، ومن وسطه ثلاثة أيام ، ومن آخره ثلاثة أيام ، يستفتح الشهر بصيام ووسطه بصيام ويختمه [ ص: 318 ] بصيام . وإن شئت أنبأتك بصوم ابن العذراء البتول عيسى ابن مريم ; فإنه كان يصوم الدهر ويأكل الشعير ويلبس الشعر ، يأكل ما وجد ولا يسأل عما فقد ، ليس له ولد يموت ولا بيت يخرب ، وكان أينما أدركه الليل صفن بين قدميه وقام يصلي حتى يصبح ، وكان راميا لا يفوته صيد يريده ، وكان يمر بمجالس بني إسرائيل فيقضي لهم حوائجهم . وإن شئت أنبأتك بصوم أمه مريم بنت عمران; فإنها كانت تصوم يوما وتفطر يومين . وإن شئت أنبأتك بصوم النبي العربي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم ; فإنه كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام ويقول : إن ذلك صوم الدهر .
وفاة داود :
وهبه آدم أربعين سنة فمات داوود ابن مائة عام
وفي الحديث : كان داود النبي فيه غيرة شديدة ، وكان إذا خرج أغلقت الأبواب ، فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع ، قال : فخرج ذات يوم وغلقت الدار ، فأقبلت امرأته تطلع إلى الدار ، فإذا رجل قائم وسط الدار ، فقالت لمن في البيت : من أين دخل هذا الرجل والدار مغلقة ؟ والله لتفتضحن بداود . فجاء داود ، فإذا الرجل قائم وسط الدار ، فقال له داود : من أنت ؟ قال : أنا الذي لا أهاب الملوك ولا يمتنع مني شيء ، فقال داود : أنت والله ملك الموت ، فمرحبا بأمر الله . فرمل داود مكانه حيث قبضت روحه