التاجر الأمين

منذ 2022-05-04

بسبب الطمع تغيب عنهم القناعة فيكذبون ويغدرون ويخلفون ويغشون الناس..

أما بعد فيقول رب العالمين سبحانه  { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا

وعند أبى داوود من حديث أنس أن الأسعار غلت وارتفعت فقال الصحابة يا رسول الله غلت الأسعار فسعِّرْ لنا فقال « « إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ وَإِنِّى لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِى بِمَظْلَمَةٍ فِى دَمٍ وَلاَ مَالٍ» ».

أيها الإخوة المؤمنون أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى خلق آدم عليه السلام وذريته وأسكنهم الأرض وقال { { اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ , قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} }

يسر الله تعالى للناس على الأرض أسباب المعاش:

بسط لهم الأرض، أرساها بالجبال، أرسل السماء عليهم مدراراً، أمدهم بأموال وبنين، جعل لهم فى الأرض جناتٍ، فجَّر لهم فيها عيوناً وآباراً، سخر لهم الفلك لتجرى فى البحر بأمره ، سخر لهم الأنهار، سخر لهم الشمس والقمر دائبين، سخر لهم الليل والنهار ثم امتن الحكيم العليم على بنى آدم فقال { {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً } } ثم أمرهم أن يخرجوا من بيوتهم ليضربوا فى أرض الله وليبتغوا من فضل الله فقال { {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } }

فتح الله تعالى للناس أبواب الحياة ويسر عليهم سبل كسب الحلال ومن هذه السبل أن يتاجر الناس بأموالهم ..

وكم من نصوص القرآن والسنة تحدثت عن التجارة وكم من الآيات التى رغبت فى التجارة وامتدحت العمل بها ..

ففى أواخر سورة الجمعة الله تعالى يقول { {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } }

وفى سورة النساء الله تعالى يقول { { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} }

أورد الإمام الطبرى عند تفسير هذه الآية قول قتادة رحمه الله إن التجارة رزق من رزق الله وحلال من حلال الله لمن طلبها بصدقها وبرها قال قتادة وكنا نُحدثُ أن التاجر الأمين الصدوق مع الذين يظلهم الله يوم القيامة فى ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله .

عرفت التجارة أيها المؤمنون:

بين العرب فى الجاهلية قبل الإسلام..

وكان فى مكة أسواق وتجار وكان الناس يسمونهم السماسرة وكان عند العرب بيع وشراء وتبادل منافع بينهم وبين الناس فى مواسم الحج والعمرة وفى سائر الأيام , تاجر العربُ فى الطعام والشراب وتاجروا فى الحرير والصوف والوبر والثياب وباعوا فى أسواقهم السلاح وباعوا العبيد والجوارى وباعوا القصائد والأشعار..

فكان فى مكة سوق عُكاظْ وقد كانت العرب تأتيه كل عام مع أول يوم من ذى القعدة فيبيعون ويشترون ويمكثون فى ذلك السوق عشرين يوماً..

ثم يسيرون إلى سوق ثانٍ يقال له سوق مَجَنَّة فيبيعون ويشترون ويتّجِرُونَ العشر الأواخر من ذى القعدة..

ثم ينتقلون إلى سوق آخر يعرف بسوق ذى المجاز فيبيعون فيه ويشترون حتى يأتى عليهم اليوم الثامن من ذى الحجة فإذا جاء عليهم هذا اليوم لملم كل تاجر ماله ومتاعه وبضاعته وتجارته وسار مع الناس إلى الحج..

وقد كان الناس يحجون قبل الإسلام ويعتمرون عملاً ببقيةٍ باقيةٍ من دين ابراهيم عليه السلام غير أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة وكان هذا منهم تغيير وتبديل فى دين الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام..

قال ابن عباس رضى الله عنهما كانت عكاظ ومَجَنَّة وذى المجاز أسواقاً فى الجاهلية فلما كان الإسلام تحرج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من التجارة فيها ومن البيع والشراء فخفف الله عن الناس ورفع عنهم الحرج وأنزل قوله:

{ { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} } فكان ابن عباس يقرؤها بقراءة مصحوبة بالتفسير فيقول { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فى مواسم الحج }

وفى سورة النور الله تبارك وتعالى يقول { { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ , رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} }

يذكر المفسرون هذه الآيات نزلت فى رجلين كانا تاجرين على عهد النبى صلى الله عليه وسلم أما أحدهما فكان بيّاعاً وكان إذا سمع النداء للصلاة وكان الميزان فى يده تركه وإن كان الميزان على الأرض لم يرفعه حتى يجيب المنادى , وأما الآخر فكان حداداً يصنع السيوف والسهام والرماح يتاجر فيها فكان إذا سمع النداء والمطرقة على السندان أبقاها موضوعة وإن كان قد رفعها تركها حتى يجيب المنادى..

فامتدح الله تعالى من فوق سبع سموات صنيعهما وفيهما أنزل قرآناً يتلى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها فقال { { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ } }

جعل الله من التجارة أيها المؤمنون سبباً لطلب الرزق وسبباً للكسب الحلال :

وأودع الله فيها البركة وأودع فيها تسعة أعشار الرزق , على أن تكون التجارة فى حلال وعلى أن يكون التاجر صادقاً وأميناً وعفيف النفس عن أموال الناس إلا بالحق..

قال معاذ بن جبل رضى الله عنه إن أطيب الكسبِ كسبُ التجار الذين إذا صُدِّقوا لم يكذبوا وإذا ائتمنوا لم يخونوا وإذا وَعدوا لم يخلفوا وإذا عاهدوا لم يغدروا وإذا اشتروا لم يندموا وإذا باعوا لم يخدعوا وإذا كان عليهم لم يماطلوا وإذا كان لهم لم يُعسِّروا ..

عن التاجر الصادق الأمين عفيف النفس :

تكلم الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال « التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ يوم القيامة » وكان صلى الله عليه وسلم ينادى التجار من أصحابه فيقول « يا معشر التجار فيقولون لبيك رسول الله فيقول إن التجار يبعثون يوم القيامة فجاراً إلا من اتقى الله وبرّ وصدق»

قبل بعثة رسول الله وبعد بعثته تاجر فى ماله وتاجر فى مال أبى طالب وتاجر فى مال خديجة ودخل الأسواق وباع واشترى وتكسب الحلال وسافر يسعى على رزقه ويضرب فى الأرض ويبتغى من فضل الله وعُرف بالصادق الأمين من تعامل الناس معه فى البيع والشراء وشارك رسول الله فى تجارته صحابياً يقال له السائب بن أبى السائب وقد لقيه يوم الفتح فقال له النبى مرحباً بأخى وشريكى قد كنت لا تدارى ولا تمارى..

علق الكفار على عمل رسول الله بالتجارة  {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا , أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا

فأنزل الله رداً عليهم قوله  {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا

علّم الرسول الكريم أصحابه وعلّم كل الناس أن التجارة قبل أن تكون شطارة ومهارة علمهم أنها صدق وأمانة علمهم أن التجارة طلب للحلال وبُعدٌ عن الحرام وعن أكل أموال الناس بالباطل..

علمهم أن يجعلوا من تجارتهم شيئاً لله ففى التجارة الصدقة وفيها النفقة وفيها التخفيف عن الناس فى وقت القحط والجدب والغلاء

يذكر التاريخ أنه فى عهد أبى بكر أصاب الناس قحط وجوع فلما ضاقت بهم السبل أتوا أبا بكر فقالوا يا خليفة رسول الله إن السماء أمسكت مائها وإن الأرض قد أمسكت نبتها وقد أشرف الناس على الهلاك والأمر إليك فانظر ماذا ترى ..

فقال الصديق للناس اصبروا فإنى أرجوا أن يفرج الله عنكم اليوم قبل غدٍ

وفى آخر النهار جاء البشير ينادى فى الناس أن قافلة لعثمان على مشارف المدينة , فخرج الناس إليها فإذا فيها زيتاً وسمناً ودقيقاً محملة على ألف جمل دخلت المدينة حتى وقفت أمام باب عثمان فخرج الغلمان فأدخلوها وخزنوها فى مخازن عثمان يومها دخل تجار المدينة على عثمان فرحين مستبشرين يقولون سنعطيك على كل درهم درهمين فقال عثمان أعطاني غيركم أكثر من ذلك قالوا نعطيك على كل درهم أربعة قال غيركم زادنى قالوا نعطيك على كل درهم خمسة قال زادني غيركم قالوا يا صاحب رسول الله نحن تجار المدينة ليس فى البلاد غيرنا فمن سبقنا إليك ؟؟

قال إن الله قد أعطانى على كل درهماً عشراً فهل من مزيد ؟؟ قالوا لا قال اشهدوا أنها كلها صدقة على الفقراء من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فخرج الغلمان بها حتى وزّعوها وقسّموها بين الناس ولسان حال عثمان فى ذلك اليوم يقول  {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا

نسال الله العظيم رب العرش الكريم أن يوسع أرزاقنا وأن يرزقنا خير الدنيا والآخرة إنه ولي ذلك والقادر عليه..

الخطبة الثانية

بقى لنا فى ختام الحديث أن نقول إذا كانت التجارة باباً من أبواب الكسب الحلال وباباً من أبواب الرزق التى عمل بها الأنبياء والصالحون بقى لنا أن نقول:

إن مجالس التجارة ومجالس البيع والشراء مجالس يحضرها الشيطان ويحضرها الكذب..

ولذلك كان النبى يصف بعض التجار بأنهم فجار فقيل يا رسول الله أوليس الله تعالى قد أحل البيع ؟ قال صلى الله عليه وسلم بلى أحل الله البيع ولكنهم يتحدثون فيكذبون ويحلفون فيأثمون .

عدد من التجار من فرط حبهم للمال يستغلون حاجة الناس فيمصون دمائهم يتلاعبون بالأسعار ويحتكرون الأقوات من أجل حفنة من المال لا تسمن ولا تغنى يتكسبوها من السحت والحرام وسوف يسألهم الله عنها من أين اكتسبوها وفيم أنفقوها..

بسبب الطمع تغيب عنهم القناعة فيكذبون ويغدرون ويخلفون ويغشون الناس..

وقد مرّ النبى بتاجر غشاش فى سوق المدينة يبيع طعاماً وقد رش عليه الماء فدس الرسول يده فى الطعام فأصابت بللاً فقال ما هذا البلل يا صاحب الطعام قال أصابته السماء يا رسول الله نزل عليه المطر فقال النبى هلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس ثم قال النبى مقولته المشهورة من غش فليس منى .

ومن الناس من يحتكر السلع ويحبس الحاجات حتى يرتفع ثمنها ويمتص دمائهم وأموال الناس وفى هؤلاء يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم « مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ ضَرَبَهُ اللَّهُ بِالْجُذَامِ وَالإِفْلاَسِ »

وفى الختام من شدد على الناس شدد الله عليه ومن عذب الناس عذبه الله فى الدنيا والآخرة ومن نفس عن مؤمن كربة نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على الناس يسر الله عليه فى الدنيا والآخرة ..

ومن ستر مسلماً ستره الله فى الدنيا والآخرة والله تعالى فى عون العبد ما دام العبد فى عون أخيه .

نسأل الله تعالى أن يغنينا بحلاله عن حرامه وأن يغنينا بفضله عمن سواه .

محمد سيد حسين عبد الواحد

إمام وخطيب ومدرس أول.

  • 6
  • 1
  • 7,162

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً