آليـات التـوازن الفكري
تأتي مشكلة "التوازن الفكري" حين يتعامل الذهن مع التصورات المعقدة بالطريقة نفسها التي يتعامل بها مع التصورات الساذجة، فيبذل في كليهما مجهودًا ذهنيًّا متساويًا، عند ذلك ستكون تصوراته في الأمور المركبة تصورات ساذجة.
وأعودُ هنا للحديث عن قولي السابق: ومن مفارقات الفكر: أن سلوك طريق واحدة فيه - ولو كانت صحيحة - لا يؤدي بالضرورة إلى نتيجة واحدة، وهي مشكلة فلسفية قديمة أدت بكثير من الفلاسفة إلى القول بتعدد الحق؛ نظرًا لعجزهم عن تفسير اختلاف الآراء في القضية الواحدة مع اتحاد منهج البحث فيها.
وهم يَعْنون بالحق المتعدد تلك النتائج المختلفة التي يصل إليها المفكرون عند استخدامهم الآلة الصحيحة لبلوغ الحق، وهي التي يسميها علماء أصول الفقه: (أدوات الاجتهاد) والتي بَنَوْا عليها قضيتهم الشهيرة: « هل كل مجتهد مصيب، أم المصيب واحد وغيره معذور؟ »، حيث لا يعنون بالمصيب والمعذور من يتسوَّرُون على المسائل ويعطون فيها أحكامًا دون أن يكون طريقهم لذلك الآلة الصحيحة للاجتهاد.
ورأي الأصوليين - وإن كان سياقهم له في قضايا الفروع الفقهية التي يسوّغ فيها الاجتهاد - إلا أن القاعدة صحيحة يمكن أن تنقل إلى جميع فروع الفكر الذي قدّمتُ تعريفه بأنه: التصور الإجمالي والتفصيلي لواقع ما، من حيث كنهُه وعوامل تكوينه ومآلاته وطرق تحسينه وعلاج آفاته.
وعندما قسّم العلماء الإدراك إلى تصور وتصديق فإنهم أردوا بذلك أن مَن لا يملك التصورات الصحيحة لا يمكن أن يصل إلى التصديقات الصائبة، وامتلاك التصورات الصحيحة هي في الحقيقة أدوات الاجتهاد في مسألة من مسائل الفكر.
أخلُص من هذا إلى أن أول مقوِّم من مقومات التوازن الفكري هو امتلاك التصورات الصحيحة عن كل قضية يُراد الحكم عليها سلبًا أو إيجابًا، والتصور إما أن يكون تصورًا أوليًّا ساذجًا كتصور الصور من جبال وأنهار وصحارى، أو تصورًا معقدًا، وهو تصور المعاني؛ كالحق والصدق والصواب والخطأ وتصور المغيَّبات كالجن والملائكة، وكل صنفٍ من هذه التصورات يحتاج إلى جهد لامتلاكِه يختلف عن الجهد المراد للصنف الآخر، فحين أتصور الناقة لا أحتاج إلى مجهود ذهني كبير لأنه بمجرد طروء الاسم على الخاطر تنتج صورة مطابقة، لوجود مثيلاتها في الذاكرة، أما حين أتصور حيوان الباندا فأحتاج إلى مجهود ذهني أكبر لعدم وجود رصيد مطابق في الذاكرة، وربما لا أصل إلى الصورة الصحيحة، وأحتاج في الوصول إليها إلى البحث عن صور مطابقة، ومع ذلك فإن المجهود الذي يبذله الذهن في تصور الباندا أقل بكثير من المجهود الذي يبذله لتصور الروح والملائكة والحق والخطأ والصواب.
تأتي مشكلة "التوازن الفكري" حين يتعامل الذهن مع التصورات المعقدة بالطريقة نفسها التي يتعامل بها مع التصورات الساذجة، فيبذل في كليهما مجهودًا ذهنيًّا متساويًا، عند ذلك ستكون تصوراته في الأمور المركبة تصورات ساذجة.
إذًا فالحصول على تصورات صحيحة هي أولى معطيات التوازن الفكري؛ لأن التصورات هي مفردات التفكير كما أن الحروف هي مفردات اللغة، وبما أن التعبير لا يمكن أن يكون صحيحًا بغير حروفه الموضوعة له فالفكر لا يمكن أن يكون مستقيمًا دون تصورات صحيحة، والحصول على التصور الصحيح هو مسئولية المفكر نفسه، وأيضًا مسئولية المستهلك نفسه، والقيام بها - المسئولية المنوطة - يحتاج إلى جهد يتوانى الكثير ممن يمارسون الكتابة في القضايا الفكرية عن تحصيله، وكذلك المستهلكون للفكر، فلم يعدْ لديهم الجَلَد حتى على تحليل الأفكار إلى تصوراتها الأولية لفحصها، فجمع التصورات عند كثير من الكتاب أو فحصها عند نسبة أكبر من المستهلكين يتم بطريقة متقاربة في كل القضايا التي يتطرقون إليها.
بعد جمع التصورات تأتي مرحلة إحداث النسبة بينها لتكوين ما يسميه المناطقة بالتصديق وهو كما قدمت: الإدراك المتضمن للحكم، فالتصديق هو نسبة التصورات إلى بعضها، فبعد أن أتصور القطب الشمالي وأتصور معنى التجمد وأتصور معنى تمركز الشمس وانحرافها، أحكم على القطب الشمالي بأنه متجمد، فقولنا: (القطب متجمد)، تصديق مبني على عدد من التصورات أدت النسبة الصحيحة لبعض إلى البعض الآخر إلى هذه النتيجة.
والأفكار الكلية أو الجزئية هي مجموعة من التصديقات، يُجري العقل النسبة بينها لتكون الفكرة.
وبذلك يمكن مناقشة كل فكرة من خلال نقد التصورات الأولية التي بنيت عليها، أو نقد أي من التصديقات المؤسسة لها، أو نقد النسبة بين التصديقات المكوّنة لها.
وكلما كانت التصورات ناشئة من مصادر صحيحة للتصور كانت أكثر مناعة عند النقد، وكذلك النسبة بينها أو النسبة بين التصديقات تعتمد مناعتها عند النقد على مدى صحة نسبة بعضها إلى بعض أو ترتب بعضها على بعض.
ولهذا يناسب هنا أن أُعرِّج بإيجاز على مصادر التصورات:
1- الحس مصدر مقر من مصادر التصور، والتصورات الناشئة عن الحس هي أقوى التصورات على الإطلاق؛ ولذلك كان استخدام القرآن الكريم للتصورات الحسية كثيرًا كمقدمات صغرى وكبرى للوصول إلى نتائج عقلية؛ كما في قوله تعالى من سورة الغاشية: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 17 - 20].
فالإبل وخلقها والسماء ورفعها والجبال ونصبها والأرض وتسطيحها، كلها تصورات مصدرها الحسّ، ولم يمنع ذلك أن تكون النسبة العقلية بينها طريقًا للوصول إلى نتيجة غيبيَّة.
إلا أن الحس يبقى عاجزًا عن رصد كثير من التصورات التي يحتاج الإنسان إلى الحكم عليها لحياته العامة الاجتماعية أو لتسيير حركته العلمية أو البرهنة على قناعاته الدينية، وهذا العجز حاول القدماء التخلص منه بطرق منها اعتبار التواتر المعنوي قائمًا مقام الحسّ، كتصور المدن النائية أو الشخوص التاريخية القديمة، وهو حل لم ينكره القرآن بل أقره، وذلك في مثل قوله تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت: 38] فالأمم السابقة كعاد وثمود كانت معروفة عند العرب بطريق التواتر المعنوي، وأقر الله هذه المعرفة وبنى سبحانه وتعالى خطابه عليها: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ} [السجدة: 26].
2- الفطرة وهي وإن كانت التصورات المنبعثة عنها أقل بكثير مما ينتج عن المصادر الأخرى إلّا أنها تدل على أعظم مدلول وهو الله، كما تدل على نسبة الخلق إليه سبحانه وتعالى، ونفي الشريك عنه فهي تدل على الله تعالى تصورًا وتصديقًا، وهذا مدلول قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَة إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] أما ما سوى ذلك من مدلولات فمن الفلاسفة المثبتين للفطرة من يثبتها ومنهم من ينكرها.
3- الوحي وهو مصدر يكاد يكون وحيدًا لتصورات مفردات عالم الغيب كالملائكة والجن والشياطين والجنة والنار والحوض والصراط ونعيم القبر وعذابه، وبذلك يكون مصدرًا وحيدًا أيضًا لما يتعلق بها من تصديقات.
وهو أيضًا مصدر وحيد لتصور مفردات الدين كالصلاة والصوم والزكاة والحج، وهو أيضًا مصدر وحيد للتصديقات الناشئة عن نسبتها إلى بعضها.
4- خبر الموثوق: وهو مصدر صحيح للتصورات شريطة أن يكون الموثوق منطلقًا في نقله عن أحد مصادر التصور الصحية المتقدمة.
ومن الطبيعي أن نسأل عن العقل: أليس هو أيضًا مصدرًا من مصادر التصورات؟
والجواب: قد يتبادر إلى الذهن أن التصور هو عملية عقلية صرفة، وهذا حق، لكن التصورات موجودة في الخارج والتعرف عليها يتم بالطرق الأربع المتقدمة، وليس للعقل قدرة على استحداث تصورات من تلقاء نفسه، وإنما هو ذاكرة لتلك التصورات التي يتعرف عليها العقل بطريق الحس أو الوحي أو الخبر المتواتر أو خبر الموثوق.
نعم إن بمقدوره تكوين الصورة بطريق التذكر أو بطريق التركيب أو بطريق الانتزاع والتخيل، بل إن العقل هو الوسيلة الأولى للربط بين المتصورات لإحداث النسبة التي ينتج عنها التصديق، كما أنه الفاعل الأقوى أيضًا في الربط بين التصديقات للحصول على الفكرة أو مجموعة الأفكار.
كل ذلك صحيح لكنه لا يعني أنه مصدر من مصادر التصور بل هو الآلة الوحيدة لحفظها والتحكم فيها.
ومن أسباب الاضطراب الفكري اعتبار العقل مصدرًا للتصورات، فإننا نجد أن هناك فئة تقيم تصديقاتها على تصورات مصدرها العقل، والحقيقة أن كل تصور مصدره العقل: ليس له وجود خارجي حقيقي فهو إما متخيل وإما موهوم، وبما أن التصديقات - ومن ثم الأفكار - تعد التصورات هي لبناتها، فإن كل تصديق مبني على تصور موهوم أو متخيل لا يمكن أن ينتج عنه أفكار متزنة.
مثال ذلك: العنقاء، طائر خيالي، وحل الأكل أو حرمته حكمان شرعيان، فحين أجمع بين هذين التصورين العنقاء وحكم الحل أو العنقاء وحكم الحرمة فإنني أخرج بتصديق فاسد وهو حل لحم العنقاء أو حرمته.
- التصنيف: