زراعة الحياة
لا تقل: أنا في أرض بُور لا نفْعَ فيها ولا جدوى من غراسها، فإن أسوأ الأزمان تلك الأزمان التي بُعث فيها الرسل، ومع ذلك غرسوا وأمعنوا في الغراس، فالمسلمون أولى من غيرهم بعمارة الأرض، واستثمار خيراتها، وصناعة النهضة فيها...
ورد في الحديث الصحيح عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تَقوم حتى يَغرِسَها، فليَغرِسْها»، هذا الحديث أجمل ما يمكن أن نطلق عليه "زراعة الحياة"؛ إذ الساعة على الأبواب، والفناء هو المصير المحتوم للحياة والأحياء على هذا الكوكب، ومع هذا، فلا بد أن تكمل غرس فسيلتك - التي هي صغيرة النخل - حتى لو كانت حياتك وحياة الفسيلة لحظات، فاللحظة لها قيمتها في الحياة، وأنَّه لا يُستهان بها، مهما تكن الظروف والأحوال والأهوال، وأنه من المهم جدًّا الحرص على اغتنام كل دقيقة من دقائق الحياة، وأن عمر الإنسان لا بد أن يستغله في العطاء والإنتاج إلى آخر لحظة، حتى وإن رأى أمواج الأهوال تداهمه من كل مكان.
إن قيام الساعة يستدعي معه صورة الهول المرعبة التي تبعث الهلع في النفوس؛ حيث مشاهد الخوف والرعب التي لا يثبت أمامها قلبٌ، مهما كانت قوته وشدته، فإسرافيل ينفخ في الصور، فتندكُّ الجبال، وتفجر البحار، وتكور الشمس، وتتناثر النجوم، ومع ذلك يقال لك: أكمل غرس فسيلتك.
أليس هذا مما يدعو إلى العجب؟
قد تقول: ومن سيستفيد من فسيلتي؟
ومن لي بالثبات أمام هذا الهول حتى أغرسها؟
ومن سيزرع فيَّ الطاقة النفسية حتى أنحني للغرس؟
ومن لي بقلب صامد يساعدني على الغرس ويد ثابتة غير مرتجفة تقوى على حمل الفسيلة ثم غرسها؟
أسوأ الظروف وأصعبها وأشدها وأرعبها على الإطلاق هو وقت مشاهدة أهوال الساعة؛ أي: إنه في أصعب الحالات التي لا يستطيع فيها الإنسان القيام بشيء مما يراه حوله من الأهوال، عليه ألَّا يتوقف عن إكمال ما بدأه من صنائع المعروف، وألَّا يطارده شبح الخوف من استكمال غراسه.
في الحديث تنبيهٌ على ألَّا يكون الإنسان أنانيًّا محبًّا لذاته، فكما غرَس غيرُه ما شبعَ به، عليه أن يغرس لمن بعده، وفيه تنبيه على أهمية كسب الحلال، وإعفاف النفس، والشغل باليد، وإتقان العمل، وإكمال مشاريع الخير، وتجنب الوقوف بحزن على الأطلال، واستمرار الإنتاجية والعطاء، وعدم التواني عن عمل الخير، وأهمية أن يكون المرء فاعلًا في حياته، مقدمًا الخير لأمته، حريصًا على صناعة الحياة لهم، باعثًا فيهم الإشراق وصناعة الأمل؛ إذ يعد هذا الحديث أصلًا في بث التفاؤل.
وفي الحديث بيان لأهمية الزراعة التي هي السبب الرئيس في الأمن الغذائي والاقتصادي والوظيفي؛ فالأمة لا يمكن أن تمتلك قرارها إلا إن امتلكت قُوتَها، وما أصبحنا في ذيل الأمم وآخر الركب إلا عندما أصبح قرارنا في يد أعدائنا، وأصبحنا نتسول منهم الغذاء والدواء، وينبهنا الحديث أنه لا تعارض بين الدين والدنيا، فما تفعله من خير في دنياك لنفسك ومجتمعك وأمتك، تجده في صحائف حسناتك يوم القيامة، إن أخلصت فيه نيتك.
وفي الحديث إشارةٌ إلى عمارة الأرض، والحفاظ عليها، وعلى البيئة.
قال المناوي: "والحاصل أنه مبالغة في الحثِّ على غرس الأشجار وحفر الأنهار؛ لتبقى هذه الدار عامرةً إلى آخر أمدِها المحدود المعدود، المعلوم عند خالقها، فكما غرس لك غيرُك فانتفعتَ به، فاغرس لمن يجيء بعدك لينتفع، وإن لم يبقَ من الدنيا إلا صُبابةٌ، وذلك بهذا القصد لا يُنافي الزهدَ والتقلل من الدنيا".
فالمسلمون أولى من غيرهم بعمارة الأرض، واستثمار خيراتها، وصناعة النهضة فيها، وفي الحديث أهمية صناعة الخير للغير، وجلب النفع للناس، فخير الناس عند الله أنفعهم للناس، ويشهد لهذا المعنى الرواية الثانية للحديث؛ وهي: «إن سمعتَ بالدجال قد خرج وأنت على وَدِيَّةٍ -صغيرة النخل- تغرسها، فلا تَعجَلْ أن تُصلحها؛ فإن للناس بعد ذلك عيشًا».
وفي الحديث إشارة إلى عدم احتقار أي فكرة نافعة مفيدة، خاصة إن جاء بها الشرع الحنيف، فقد يقول قائل: ما فائدة التوجيه بغرس فسيلة، وهي لن تنفع، ولن تدوم، ولن يستفيد منها أحد، ما دام الغارس قد رأى القيامة رَأْيَ العين؟ والفائدة والمغزى من الحديث التنبيه على أهمية العمل والحث عليه، ونبذ التواكل والكسل والفتور، فإن ضيق الوقت مع هول أحداث القيامة أو أماراتِها ينبغي ألَّا يمنع المسلمَ ألبتة من مواصلة مشاريعه الناجحة، وألَّا يكسب إلا حلالًا طيبًا، وأن يقوم على أمر نفسه كيلا يكون عالة على غيره.
وفي الحديث تنبيه على أهمية التخطيط في حياة المسلم، حتى وإن رأى أنَّ ما تبقى من العمر لا يُعَد شيئًا، فهو عندما يغرس هذه الفسيلة هو يخطط لإصلاح معاش جيل قادم، وقد جاء في الرواية الثانية ما يؤكِّد هذا المعنى: «فلا تَعجَلْ أن تُصلحها؛ فإن للناس بعد ذلك عيشًا»، ألا ترى أن النخل يحتاج عدة سنوات ليثمر، وفي مثل هذه الظروف التي ظهرت فيها أماراتُ الساعة، فإن الإنسان ليس بمقدوره أن يخطِّط لأكثر من معاش يومه، أو حتى لساعته ولحظته وكيفية نجاته، فجاء الحديث مؤكِّدًا على زرع الفسيلة، ولو كان هذا آخرَ عملٍ يقوم به المسلم في دنياه، قبل طيِّ صفحة الدنيا، وفناء الحياة، وخراب الأرض.
ولا يخفى عليك - أخي القارئ - أن هذا الحديث هو ضربُ مثلٍ، فلا تقف عن إكمال أي مشروع ناجح بدأت فيه، حتى وإن كنت في آخر لحظات العمر، فهذا عمر رضي الله عنه يقوم بنصح أحد زوَّاره، وهو في سكرات الموت، وسعد بن الربيع يقول لزيد بن ثابت، وهو يجود بنفسه في آخر رمق في أحد: "يا زيد، بلغ قومي من الأنصار السلام، وقل لهم: لا عذر لكم عند الله إن خُلِص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف"، وأبو أيوب يخرج مع الجيش لفتح القسطنطينية وهو في الثمانين لا يقدر على الثبات على الفرس، وقد أمرهم أن يدفنوه حيث انتهى مسيرهم.
ومن أجمل ما يرشدنا إليه الحديث الحرص على صناعة الأثر قبل الرحيل، فالمسلم لا بد أن يصنع أثرًا طيبًا في حياته؛ من صدقة جارية له تبقى بعد موته، وأن يكون صاحب بصمة وإحسان قبل أن يغادر دنياه، فكم من أناس الآن يحملون شتلات الفسائل يغرسونها على ضفاف أعمارهم، يستعدون لمنعطف الآخرة بأجمل الغراس، يشرعون كل يوم بإلقاء بذور الخير والجمال، ويزرعون الحياة في قلوب من حولهم.
لا تستسلم عند حافَّة العمر، ولا تقف حتى وإن رأيت ترابك جافًّا، وصحراءك قاحلة، ولا تقل لنفسك قبل غروب شمس عمرك: ماذا ستنفع فسيلتي، وأنا أرى الساعة تقوم هذه اللحظة؟ ماذا الذي أكون قد صنعت؟ ومن سيستفيد منها؟ وما جدوى الغرس في هذا التوقيت؟
هنا تجد الحديث يرتقي بك ارتقاء سريعًا فوق كل مظاهر اليأس والإحباط، والبطالة والفتور، ويحثك على المبادرة بفعل الخيرات قبل حلول المنية وانقضاء العمر.
ابعث مشروعاتك الضخمة التي تنوء بحملها، وابدأ بالغراس، ولا تقل: ما لي وله؛ فإنَّ له أهله من الغارسين؟
لا تقل: أنا في أرض بُور لا نفْعَ فيها ولا جدوى من غراسها، فإن أسوأ الأزمان تلك الأزمان التي بُعث فيها الرسل، ومع ذلك غرسوا وأمعنوا في الغراس، وسيأتي بعضهم يوم القيامة ولم يتبعه أحد.
اجعل من عمرك جنَّة حتى تصل إلى غايتك الكبرى، ولا يلعبن بك الزمن، ولا يبدد حياتك الفراغ، واسقِ غراسك بالعزيمة، وهيئ أرض قلبك بين الحين والآخر لغَرْس الفسائل النافعة، ولا تبتأس حين الغراس لتعفُّر يديك في التراب، وعش مربيًا متعاهدًا لفسائلك الأثيرة، واصبر على تأخر الثمرة، وعِشْ على أمل أن ترى ثمارها يانعة طيبة، متسلحًا بالهمة والمداومة على السُّقيا، واعلم أن الأيدي المتْرَفة التي اعتادتِ الكسل والقنوط، والدعة والراحة والفتور محالٌ أن تُمسِكَ بالفسائل وتغرسها.
امضِ جنبًا إلى جنب مع الصلحاء الذين يحملون فسائل الخير والجمال يشد بعضهم أزرَ بعض، ويجددون العهد على الطريق في نيَّة وثبات، حتى تستأنس بمسيرهم وأنت تشاهد فسائلهم سامقة قد آتت أكلها.
تأمل سيرهم وأحوالهم، وكيف ردموا الجذور بإخلاص، وكيف تعاهدوا الساق واستبشروا باخضرار الأوراق، ولا تقف فلعلَّ آخر نبتة تغرسها في حياتك هي التي ستشهد لك بالخير والأجر، ورفعة القدر، وجمال الذكر، وبها تختم العمر.
_________________________________________
الكاتب: عامر الخميسي
- التصنيف: