صناعة الذات في القرآن
القرآن أقوى منهج لصناعة الذات للأفضل في أسلوبه وتشريعاته الجميلة، فهو بحر جارٍ لا ينضب ماؤه، وحديقة غنَّاء تنتصر على دائه، وجبال راسيات في المعرفة والثقافة الساحرة في واقعنا المعاصر قد تنوعت أفكاره، وتطايرت أوراقه لكل إنسان مؤمن موحِّد.
قد تحدثت كتب التنمية البشرية عن موضوعنا هذا، ولكن للأسف كلها تنظير بدون تطبيق، أضف إلى ذلك محوها لكثير من زوايا الموضوع، وأيضًا لم تتحدث عنه كمنهج إسلامي، بل جعلته منفصلًا عنها بكل غرور، تستلهم محاوره من كتب غربية وأخرى تجارب شخصية.
وهذا ما دفعني إلى بيان هذا الموضوع من مناهج القرآن، وهو حديثي إليكم في هذه المقالة.
أقول وبالله التوفيق:
1- إن الذات أرض خصبة ينمو شجرها إذا ارتوت من النبع الصافي في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [سبأ: 9].
التفسير الميسر: أفلم يَرَ هؤلاء الكفار الذين لا يؤمنون بالآخرة عظيمَ قدرة الله فيما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض مما يبهر العقول، وأنهما قد أحاطتا بهم؟
2- ففي ثقافتنا الإسلامية جواهر نفيسة لصناعة الذات، وهذا يأتي بعد تأمل طويل في كتاب الله وسنة رسوله.
قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7، 8].
فصناعة الذات هي صميم الجهاد في سبيل الله في هذه الحياة؛ فهو دفْعٌ للذات في ميدان الفكر والثقافة والريادة.
3- فعندما تستعد لخوض معركة مع الأعداء تنبع فكرة جذب الأفكار والمقترحات من تعمق النفس البشرية في نصرها وهيمنتها، بوضع الأسباب والمسببات في ساحة الصراع بين الحق والباطل؛ قال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37].
التفسير الميسر: "وليست أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا قربى، وترفع درجاتكم، لكن مَن آمن بالله وعمل صالحًا، فهؤلاء لهم ثواب الضعف من الحسنات، فالحسنة بعشر أمثالها إلى ما يشاء الله من الزيادة، وهم في أعالي الجنة آمنون من العذاب والموت والأحزان".
4- إن صناعة الذات - يا صاحبي - تتمثل في ديننا أولًا في الجهاد في سبيل الله - أقصد بذلك الجهاد الحقيقي، وكذلك جهاد النفس في هذه الدنيا - ثانيًا: في التربية الخاصة للفرد داخل أسرته؛ حيث تجد الذات مناها وبلوغ أقصى الأماني في سيرها، مع رواد الفلسفة الفكرية للارتقاء بنظامه وهيكلة تشريعاته.
وهذان المذهبان هما: خلاصة صناعة الذات في منهج الإسلام، وهما بحق تؤول إليه جميع مميزات الصناعة للذات في الكتب الغربية.
فهي صناعة الذات قد بدأت من الصغر بتربية الوالدين للطفل المسلم، فهي درجات التفوق والنجاح الدائم بحسن تربيته على معالي الأمورِ وصغائرِها وكمالاتها، فهي بحق معمل البناء الحر الذي من خلاله تتفتح العقول، وتُبنى المعارف في أجواء من الحكمة والحرية والتسامح.
قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} [الطارق: 13].
التفسير الميسر: والسماء ذات المطر المتكرر، والأرض ذات التشقق بما يتخللها من نبات، إن القرآن لقول فصل بَيْنَ الحق والباطل، وما هو بالهزل.
5- إن ثقافتنا الإسلامية بصناعة الذات تصنع العجب والسحر الحلال، فهي ثقافة تستلهم محاوره من تراتيب التشريع لتصبح الذات من أرباب الفكر الإسلامي في العالم وتقريبه للفرد والمجتمع.
إن الاستدلال الإسلامي يفوق إمكانيات التنمية البشرية، فهو منهج اعتقادنا؛ حيث تجد روعة التنزيل بقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14].
التفسير الميسر: قد فاز مَن طهر نفسه من الأخلاق السيئة، وذكر الله، فوحَّده ودعاه وعمل بما يرضيه، وأقام الصلاة في أوقاتها؛ ابتغاء رضوان الله وامتثالًا لشرعه.
فهي رحلة تبني فكر الإنسان للتزود لِما فيه صلاح الذات، والتحذير من ركود الذات وعدم تقدمها لمرضاة الله.
إن هذا الأسلوب القرآني يخاطبك بكل قوة لتتقدم الذات، وتترك الركود أو الرجوع للخلف.
6- وتأمل معي قوله تعالى: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} [الجن: 14].
فهو أسلوب قرآني مجيد يُوِّصِف لك الحقيقة، ثم يوضحها برسم الهدف في المستقبل، مما يعطي إثارة للذات وصناعتها على أكمل وجه ضمن مؤثرات بيئية واجتماعية، وثقافية واقتصادية؛ لتكون الذات البشرية متميزة في وجه الواقع وبلورتها للهدف المنشود.
7- إن تلاوة الآيات القرآنية لصناعة الذات تحظى بالكثير منها بالقرآن.
قال تعالى: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر: 45].
ففي التفسير: وكنا نتحدث بالباطل مع أهل الغواية والضلالة.
فنجد هنا تحذير القرآن من معوقات صناعة الذات، فهي رسمت الطريقة ونقطة الوصول للذات، وهي تتمثل في ترك اللهو واللعب، والإقبال على كل شيء ينفعها.
8- فعند تأملي للآيات لصناعة الذات وجدتها تفوق 423 آية، وهو منهج يحتاج منا أن نفرده في مؤلَّف مستقل، يستوعب إشارات القرآن لصناعة الذات للأفضل.
9- قال تعالى: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} [سبأ: 5].
ففي التفسير: والذين سعوا في الصدِّ عن سبيل الله وتكذيب رسله وإبطال آياتنا، مشاقِّين الله، مغالبين أمره، أولئك لهم أسوأ العذاب وأشده ألمًا.
أرأيت المنهج القرآني كيف يخاطب الذات العنيدة التي لا ترتقي للحق، ولا تسعى لنيل أعلى المراتب العليا، وهذا يعني عند الغرب غياب الرؤية البصرية؛ لانسياق أهدافها في وجودها في الحياة.
إنها ذات وقفت عند نقطة الآباء والأجداد، ولم تتقدم خطوة واحدة نحو الفلاح والنجاح.
آيات صناعة الذات ناشدتْ فكري، وقوَّت مناطق عقلي وقلبي وحياتي كلها؛ لكي أترنم بها، إنها الطريقة الصحيحة للرد على مناهج الغرب الهوجاء.
فالقرآن أقوى منهج لصناعة الذات للأفضل في أسلوبه وتشريعاته الجميلة، فهو بحر جارٍ لا ينضب ماؤه، وحديقة غنَّاء تنتصر على دائه، وجبال راسيات في المعرفة والثقافة الساحرة في واقعنا المعاصر قد تنوعت أفكاره، وتطايرت أوراقه لكل إنسان مؤمن موحِّد.
وفي نهاية المقال أحببتُ أن أضع لك نبراسًا وضوءًا جديدًا في اعتناق الفكرة وتثبيتها في فهمهما وتطبيقها، وهي باختصار التعمق الشديد للآيات القرآنية في كل موضوع تطرحه.
فمنهج القرآن - يا صديقي - عذب فرات ماؤه، ترتوي منه وتغسل سواد قلبك وروحك؛ حتى تكون للإيمان والخير والعافية صدقًا وعدلًا.
لولا خشية الإطالة لَبسطتُ القول والعمل بكثير من الآيات الدالة على الذات وصناعتها بتميز يذهل القارئ، ويستميل إليها كل جاحد مغرور.
- التصنيف: