إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ
{{إِنَّ الصَّفَا}} جبل مقابل الكعبة في الجهة الشرقية الجنوبية، ويسمى «جبل أبي قبيس» {وَالْمَرْوَةَ} جبل مقابل الصفا من الجهة الشمالية
{بسم الله الرحمن الرحيم }
{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ (162)}
{{إِنَّ الصَّفَا}} جبل مقابل الكعبة في الجهة الشرقية الجنوبية، ويسمى «جبل أبي قبيس» {وَالْمَرْوَةَ} جبل مقابل الصفا من الجهة الشمالية، ويسمى «قُعَيقعان» والمسافة بينهما قرابة (760) ذراعاً.
وَسُمِّيَ الصَّفَا لِأَنَّ حِجَارَتَهُ مِنَ الصَّفَا وَهُوَ الْحَجَرُ الْأَمْلَسُ الصُّلْبُ، وَسُمِّيَتِ الْمَرْوَةُ لِأَن حجارتها مِنَ الْمَرْوِ وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْبَيْضَاءُ اللَّيِّنَةُ الَّتِي تُورِي النَّارَ وَيُذْبَحُ بِهَا لِأَنَّ شَذْرَهَا يُخْرِجُ قِطَعًا مُحَدَّدَةَ الْأَطْرَافِ وَهِيَ تُضْرَبُ بِحِجَارَةٍ مِنَ الصَّفَا فَتَتَشَقَّقُ.
وَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لطف بِأَهْل بِمَكَّة فَجَعَلَ لَهُمْ جَبَلًا مِنَ الْمَرْوَةِ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ فِي اقْتِدَاحِهِمْ وَفِي ذَبَائِحِهِمْ، وَجَعَلَ قُبَالَتَهُ الصَّفَا لِلِانْتِفَاعِ بِهِ فِي بِنَائِهِمْ.
{{مِن شَعَائِرِ اللّهِ}} جمع شعيرة، وهي التي تكون عَلَماً في الدين؛ يعني: من معالم الدين الظاهرة؛ لأن العبادات منها خفية: بَيْنَ الإنسان وربه؛ ومنها أشياء عَلَم ظاهر بيِّن ــــ وهي الشعائر. وليس المراد أن نفس الجبل من الشعائر؛ بل المراد الطواف بهما من الشعائر.
والشعيرة مشتقة لغة من «شعر» إذا علم وفطن، ومنه قولهم «أشعر البعير» إذا جعل له سمة في سنامه يعرف منها بأنه معد للهدي.
يخبر تعالى مقرراً فرضية السعي بين الصفا والمروة، ودافعاً ما توهمه بعض المؤمنين من وجود إثم في السعي بينهما نظراً إلى أنه كان في الجاهلية على الصفا صنم يقال له إسافٌ، وآخر على المروة يقال له نائلة، يتمسح بهما من يسعى بين الصفا والمروة.
فقد كان السعي بين الصفا والمروة من أعمال الحج من زمن إبراهيم عليه السلام تذكيرا بنعمة الله على هاجر وابنها إسماعيل إذ أنقذه الله من العطش كما في حديث البخاري في كتاب بدء الخلق.
وقد كان حوالي الكعبة في الجاهلية حجران كانا من جملة الأصنام التي جاء بها عمرو بن لحي إلى مكة، فعبدها العرب، إحداهما يسمى إسافا والآخر يسمى نائلة، كان أحدهما موضوعا قرب جدار الكعبة والآخر موضوعا قرب زمزم، ثم نقلوا الذي قرب الكعبة إلى جهة زمزم، وكان العرب يذبحون لهما، فلما جدد عبد المطلب احتفار زمزم بعد أن دثرتها جُرهم حين خروجهم من مكة، وبنى سقاية زمزم، نقل ذَيْنَكَ الصنمين فوضع إسافا على الصفا ونائلة على المروة، وجعل المشركون بعد ذلك أصناما صغيرة وتماثيل بين الجبلين في طريق المسعى، فتوهم العرب الذين جاءوا من بعد ذلك أن السعي بين الصفا والمروة طواف بالصنمين.
وكانت الأوس والخزرج وغسان يعبدون مناة وهو صنم بِالْمُشَلَّلِ قُرْبَ قُدَيْدٍ بمكة فكانوا لا يسعون بين الصفا والمروة تحرجا من أن يطوفوا بغير صنمهم، في البخاري فيما علقه عن مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ: "كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْأَنْصَارِ مِمَّنْ كَانَ يُهِلُّ لِمَنَاةَ وَمَنَاةُ صَنَمٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ قَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ كُنَّا لَا نَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ تَعْظِيمًا لِمَنَاةَ".
فلما فتحت مكة وأزيلت الأصنام وأبيح الطواف بالبيت وحج المسلمون مع أبي بكر وسعت قريش بين الصفا والمروة تحرج الأنصار من السعي بين الصفا والمرة وسأل جمع منهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هل علينا من حرج أن نطوف بين الصفا والمروة فأنزل الله هذه الآية.
وقد روى البخاري عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ «قُلْتُ لِعَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ: أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى » {{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}} « فَلَا أُرَى عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا فَقَالَتْ عَائِشَةُ كَلَّا لَوْ كَانَتْ كَمَا تَقُولُ كَانَتْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْأَنْصَارِ كَانُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ وَكَانَتْ مَنَاةُ حَذْوَ قُدَيْدٍ وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى» {{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}}
زَادَ سُفْيَانُ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامٍ: مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ امْرِئٍ وَلَا عُمْرَتَهُ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
ومن الفوائد في الآية:
- أن الشيء المقدس لا يزيل تقديسه ما يحف به من سئ العوارض.
- أن لا حرج في الصلاة في كنيسيةٍ حولت مسجداً، ولا يضر كونها كانت معبداً للكفار.
- فهم الآية على الوجه الصحيح، فقوله تعالى: { {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} } أي يسعى بينهما، فإن ظاهر قوله: { {فَلا جُنَاحَ عَلَيْه}} أن غاية أمر السعي بينهما أن يكون من قسم المباح، وفي صحيح البخاري عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ: « سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؟ فَقَالَ كُنَّا نَرَى أَنَّهُمَا مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ أَمْسَكْنَا عَنْهُمَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى» {{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}}
وبهذا عرف أن نفي الجناح ليس المراد به بيان أصل حكم السعي، وإنما المراد نفي تحرجهم بإمساكهم عنه، حيث كانوا يرون أنهما من أمر الجاهلية، أما أصل حكم السعي فقد تبين بقوله: {{مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}} .
ولما كان الطواف بينهما ليس عبادة مستقلة، إنما يكون عبادة إذا كان بعض حج أو عمرة، بين تعالى ذلك بقوله: {فَمَنْ} من شرطية { {حَجَّ الْبَيْتَ} } الحج: اسم في اللغة للقصد، وفي العرف: قصد البيت الحرام الذي بمكة في وقت معين لعبادة الله تعالى بالإحرام والطواف والسعي والوقوف بعرفة ... وهذه العبادات تسمى «نسكا» {{أَوِ اعْتَمَرَ}} زيارة بيت الله تعالى للطواف به والسعي بين الصفا والمروة والتحلل بحلق شعر الرأس أو تقصيره.
{فَلاَ جُنَاحَ} الاثم مشتق من «جنح» إذا مال، لأن الإثم يميل به المرء عن طريق الخير، فاعتبروا فيه الميل عن الخير، عكس اعتبارهم في «حنف» أنه ميل عن الشر إلى الخير.
{ {عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}} والآية تدل على وجوب السعي بين الصفا والمروة بالإخبار عنهما بأنهما من شعائر، ومنهم ذهب إلى أن الطواف «ركن» كالشافعي وأحمد ومالك -في مشهور مذهبه- أو واجب يجبر بالدم.
والمسألة فيها تفصيل، فهل السعي ركن، أو واجب، أو سنة؟ .. اختلف في ذلك أهل العلم على أقوال ثلاثة؛ فقال بعضهم: إنه ركن من أركان الحج لا يتم الحج إلا به؛ وقال بعضهم: إنه واجب من واجبات الحج يجبر بدم، ويصح الحج بدونه؛ وقال آخرون: إنه سنة، وليس بواجب.
والقول بأنه سنة ضعيف جداً؛ لأن قوله تعالى: {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} يدل على أنه أمر مهم؛ لأن الشعيرة ليست هي السنة فقط؛ الشعيرة هي طاعة عظيمة لها شأن كبير في الدين.
بقي أن يكون متردداً بين الركن، والواجب؛ والأظهر أنه ركن؛ لما رواه الإمام أحمد وغيره عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي تَجْرَاةَ قَالَتْ: دَخَلْنَا دَارَ أَبِي حُسَيْنٍ فِي نِسْوَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، قَالَتْ: وَهُوَ يَسْعَى يَدُورُ بِهِ إِزَارُهُ مِنْ شِدَّةِ السَّعْيِ، وَهُوَ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: (اسْعَوْا، فَإِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ) [حسن بطرقه وشاهده]؛ وقول عائشة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: "والله! ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة".
فالأقرب أنه ركن؛ وليس بواجب؛ وإن كان الموفق ــــ رحمه الله ــــ وهو من مشائخ مذهب الإمام أحمد ــــ اختار أنه واجب يجبر بدم.
{{وَمَن تَطَوَّعَ}} ما تترغب به من ذات نفسك مما لا يجب عليك {خَيْراً} اسم لكل ما يجلب المسرة، ويدفع المضرة، والمراد به هنا العمل الصالح.. فيكون المراد التبرع بأي فعل طاعة كان، وهو قول الحسن. والمقصد من هذا التذييل الإتيان بحكم كلى في أفعال الخيرات كلها من فرائض ونوافل.
فليس المقصود من {خَيْراً} خصوص السعي لأن خيرا نكرة في سياق الشرط فهي عامة. بخلاف قوله تعالى في آية الصيام في قوله: { {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ}} [البقرة:184] لأنه أريد هنالك بيان أن الصوم مع وجود الرخصة في الفطر أفضل من تركه، أو أن الزيادة على إطعام مسكين أفضل من الاقتصار عليه.
{{فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} } جواب الشرط، وشكر الله العبد بأحد معنيين: إما بالثواب أي لا يضيع أجر محسن، وإما بالثناء.
وهو سبحانه وتعالى شاكر، وشكور؛ وشكره تعالى أنه يثيب العامل أكثر من عمله؛ فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
وعلمه هنا هو: العلم بنيته وإخلاصه في العمل، أو أنه لا يخفى عنه إحسانه، أو علمه بقدر الجزاء الذي للعبد على فعل الطاعة.
وقرن العلم بالشكر لاطمئنان العبد إلى أن عمله لن يضيع فإنه معلوم عند الله، ولا يمكن أن يضيع منه شيء؛ يعني: إذا عَلم العامل أن الله تعالى شاكر، وأنه عليم، فإنه سيطمئن غاية الطمأنينة إلى أن الله سبحانه وتعالى سيجزيه على عمله بما وعده به، ويعطيه أكثر من عمله.
وقيل: ذكر الوصفين لأن ترك الثواب عن الإحسان لا يكون إلا عن جحود للفضيلة أو جهل بها فلذلك نُفيا بقوله: {شَاكِرٌ عَلِيمٌ}.
{{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ}} عبر بالفعل المضارع للدلالة على أنهم في الحال كاتمون للبينات والهدى، ولو وقع بلفظ الماضي لتوهم السامع أن المعنى به قوم مضوا مع أن المقصود إقامة الحجة على الحاضرين. ويعلم حكم الماضين والآتين بدلالة لحن الخطاب لمساواتهم في ذلك.
والكتمان يكون بإلغاء الحفظ والتدريس والتعليم، ويكون بإزالته من الكتاب أصلا وهو ظاهره قال تعالى: {{وَتُخْفُونَ كَثِيراً}} [الأنعام:91]، ويكون بالتأويلات البعيدة عن مراد الشارع لأن إخفاء المعنى كتمان له.
{{مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} } جمع بينة، وهي الحجج التي يثبت بها شيء المراد إثباته، والمراد بها هنا ما يثبت نبوة محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من نعوت وصفات جاءت في كتب أهل الكتاب {وَالْهُدَى} ما يدل على المطلب الصحيح ويساعد على الوصول إليه، والمراد به هنا ما جاء به رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الدين الصحيح المفضي بالآخذ به إلى الكمال والسعاة في الدنيا والآخرة .. فما أنزل الله من الوحي فهو بيِّن لا غموض فيه؛ وهدًى لا ضلالة فيه.
{{مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ}} لزيادة التفظيع لحال الكتمان، وذلك أنهم كتموا البينات والهدى مع انتفاء العذر في ذلك لأنهم لو كتموا ما لم يبين لهم لكان لهم بعض العذر أن يقولوا كتمناه لعدم اتضاح معناه، فكيف وهو قد بين ووضح؟!! {{لِلنَّاسِ}} أهل الكتاب {{فِي الْكِتَابِ}} التوراة والإنجيل. وقيل: الناس أمة محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والكتاب: القرآن.
والأولى والأظهر: عموم الآية في الكاتمين، وفي الناس، وفي الكتب؛ وإن نزلت على سبب خاص، فهي تتناول كل من كتم علماً من دين الله يحتاج إلى بثه ونشره، وذلك مفسر في قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحديث الذي رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ عَلِمَهُ ثُمَّ كَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ)» [الترمذي]، وذلك إذا كان لا يخاف على نفسه في بثه.
وقد فهم الصحابة من هذه الآية العموم، وهم العرب الفصح المرجوع إليهم في فهم القرآن. كما روي عن عثمان وأبي هريرة وغيرهما: "لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم".
وقد امتنع أبو هريرة من تحديثه ببعض ما يخاف منه فقال: "لو بثثته لقطع هذا البلعوم".
{{أُولَـئِكَ}} اسم إشارة للبعيد {{يَلعَنُهُمُ}} هو الطرد والبعد من كل خير ورحمة {اللّهُ} وأبرز اسم الجلالة بلفظ الله على سبيل الالتفات، إذ لو جرى على نسق الكلام السابق، لكان "أولئك يلعنهم"، لكن في إظهار هذا الاسم من الفخامة ما لا يكون في الضمير {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} من يتأتى ويصدر عنهم اللعن كالملائكة والمؤمنين. أو البهائم والحشرات -قاله مجاهد وعكرمة- وذلك لما يصيبهم من الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين.
وقيل: أي يلعنهم كل لاعن، والمراد باللاعنين المتدينون الذين ينكرون المنكر وأصحابه ويغضبون لله تعالى ويطلعون على كتمان هؤلاء فهم يلعنونهم بالتعيين، وإن لم يطلعوا على تعيينهم فهم يلعنونهم بالعنوان العام، أي: حين يلعنون كل من كتم آيات الكتاب حين يتلون الكتاب.
وفي قوله: {ويلعنهم اللاعنون}، ضرب من البديع، وهو التجنيس المغاير، وهو أن يكون إحدى الكلمتين إسماً والأخرى فعلاً.
وظاهر الآية استحقاق اللعنة على من كتم ما أنزل الله، وإن لم يسأل عنه، بل يجب التعليم والتبيين، وإن لم يسألوا، لقوله تعالى: {{وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} } [آل عمران:187]
وقال الإمام أبو محمد عليّ بن أحمد بن حزم القرطبي، فيما سمع منه أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي الحافظ: الحظ لمن آثر العلم وعرف فضله أن يستعمله جهده ويقرئه بقدر طاقته ويحققه ما أمكنه، بل لو أمكنه أن يهتف به على قوارع طرق المارة ويدعو إليه في شوارع السابلة وينادي عليه في مجامع السيارة، بل لو تيسر له أن يهب المال لطلابه ويجري الأجور لمقتبسيه ويعظم الأجعال للباحثين عنه ويسني مراتب أهله صابراً في ذلك على المشقة والأذى، لكان ذلك حظاً جزيلاً وعملاً جيداً وسعداً كريماً وأحياء للعلم، وإلا فقد درس وطمس ولم يبق منه إلا آثار لطيفة وأعلام دائرة. انتهى كلامه.
{{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ}} أصلحوا ما أفسدوه من عقائد الناس وأمور دينهم بإظهار ما كتموه والايمان بما كذبوا به وأنكروه {فَأُوْلَـئِكَ} إشارة إلى من جمع هذه الأوصاف من التوبة والإصلاح والتبيين {أَتُوبُ عَلَيْهِمْ} ومن تاب الله عليه لا تلحقه لعنة {وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} وختم بهما ترغيباً في التوبة وإشعاراً بأن هاتين الصفتين هما له، فمن رجع إليه عطف عليه ورحمه.
وذكروا في هذه الآية من الأحكام جملة:
- منها أن كتمان العلم حرام، يعنون علم الشريعة لقوله: {{مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ}} ، وبشرط أن يكون المعلم لا يخشى على نفسه، وأن يكون متعيناً لذلك.
فإن لم يكن من أمور الشرائع، فلا تحرج في كتمها. روي مسلم عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً.
وروي البخاري: وَقَالَ عَلِيٌّ: «"حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ"» .
ولذلك وجب على العالم إذا جلس إليه الناس للتعلم أن يلقي إليهم من العلم ما لهم مقدرة على تلقيه وإدراكه.
قالوا: والمنصوص عليه من الشرائع والمستنبط منه في الحكم سواء، وإن خشي على نفسه فلا يحرج عليه فيتعين عليه.
- ومنها: أن الكافر لا يجوز تعليمه القرآن حتى يسلم، ولا تعليم الخصم حجة على خصمه ليقطع بها ماله، ولا السلطان تأويلاً يتطرّف به إلى مكاره الرعية، ولا تعليم الرخص إذا علم أنها تجعل طريقاً إلى ارتكاب المحظورات وترك الواجبات.
وفي صحيح البخاري أن الحجاج قال لأنس بن مالك حدثني بأشد عقوبة عاقبها النبي فذكر له أنس حديث العرنيين الذين قتلوا الراعي واستاقوا الذود فقطع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة يستقون فلا يسقون حتى ماتوا، فلما بلغ ذلك الحسن البصري قال: وَدِدْتُ أَنَّهُ لَمْ يُحَدِّثْهُ بِهَذَا، أو يتلقفون من ظاهره ما يوافق هواهم فيجعلونه معذرة لهم فيما يعاملون به الناس من الظلم.
قال ابن عرفة في "التفسير": لا يحل للعالم أن يذكر للظالم تأويلا أو رخصة يتمادى منها إلى المفسدة كمن يذكر للظالم ما قال الغزالي في "الإحياء" من أن بيت المال إذا ضعف واضطر السلطان إلى ما يجهز به جيوش المسلمين لدفع الضرر عنهم فلا بأس أن يوظف على الناس العشر أو غيره لإقامة الجيش وسد الخلة، قال ابن عرفة وذكر هذه المظلمة مما يحدث ضررا فادحا في الناس.
وقد سأل سلطان قرطبة عبد الرحمن بن معاوية الداخل يحيى بن يحيى الليثي عن يوم أفطره في رمضان عامدا غلبته الشهوة على قربان بعض جواريه فيه فأفتاه بأنه يصوم ستين يوما والفقهاء حاضرون ما اجترأوا على مخالفة يحيى فلما خرجوا سألوه لم خصصته بأحد المخيرات فقال لو فتحنا له هذا الباب لوطئ كل يوم وأعتق أو أطعم فحملته على الأصعب لئلا يعود... فهو في كتمه عنه الكفارتين المخير فيهما قد أعمل دليل دفع مفسدة الجرأة على حرمة فريضة الصوم.
- ومنها: وجوب قبول خبر الواحد، لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب عليهم قبول قوله، لأن قوله {من البينات والهدى} يعم المنصوص والمستنبط.
- ومنها: جواز لعن من مات كافراً، وقال بعض السلف: لا فائدة في لعن من مات أو جنّ من الكفار، وجمهور العلماء على جواز لعن الكفار جملة من غير تعيين.
وذكر ابن العربي الاتفاق على أنه لا يجوز لعن العاصي والمتجاهر بالكبائر من المسلمين.
- ومنها: أن التوبة المعتبرة شرعاً أن يظهر التائب خلاف ما كان عليه في الأول، فإن كان مرتداً، فبالرجوع إلى الإسلام وإظهار شرائعه، أو عاصياً، فبالرجوع إلى العمل الصالح ومجانبة أهل الفساد. وأما التوبة باللسان فقط، أو عن ذنب واحد، فليس ذلك بتوبة.
{{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ}} وبالغ في اللعنة، بأن جعلها مستعلية عليه، وقد تجللته وغشيته، فهو تحتها، وهي عامة في كل من كان كذلك {اللّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} فحتى الكافر يلعنه الكافر؛ وقد أخبر الله تعالى عن أهل النار أنه {{كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا}} [الأعراف:38]؛ فالكافر ــــ والعياذ بالله ــــ ملعون حتى ممن شاركه في كفره.
{{خَالِدِينَ فِيهَا}} تصريح بلازم اللعنة الدائمة {لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} ولو ليوم واحد، لقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ} [غافر:49ٍ]
{{وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ}} من الإنظار وهو الإمهال؛ فهم لا يمهلون ولا ساعة واحدة؛ ولهذا قال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:71]؛ فمن يوم يجيئونها تفتح؛ أما أهل الجنة فإذا جاءوها لم تفتح فور مجيئهم، كما قال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:71]؛ لأنهم لا يدخلونها إلا بالشفاعة، وبعد أن يقتص من بعضهم لبعض؛ فإذا جاءوها هذبوا، ونقوا، ثم شفع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في دخول الجنة؛ وحينئذ تفتح أبوابها.
وقيل: {{وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ}} لا يمهلوا ليعتذروا، كقوله تعالى: {{وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ}} [المرسلات:36]
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
- التصنيف: