التصدر وقت الأزمات

منذ 2011-09-14

بينما ينظر إلى التصدر في الظروف الاعتيادية على أنه طلب لما لا ينبغي طلبه خاصة عند وجود أكثر من واحد ممن يصلحون للتصدر وتنطبق عليهم شروطه...



بينما ينظر إلى التصدر في الظروف الاعتيادية على أنه طلب لما لا ينبغي طلبه خاصة عند وجود أكثر من واحد ممن يصلحون للتصدر وتنطبق عليهم شروطه، إلا أن الأمر مختلف جدًا في وقت الأزمات والشدائد وعندما تكون تكلفة التصدر في ظاهر الأمر عالية لا يطيق تحملها إلا أصحاب الهمم العالية.

أما طلب التصدر في الظروف العادية فقد دل على المنع منه قوله تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ}، لأن المتصدر مُزكٍ لنفسه ومادح لها ضرورة وهو منهي عن ذلك، كما دل عليه صراحة قول الرسول الأمين محمد -صلى الله عليه وسلم- لعبد الرحمن بن سمرة: -رضي الله تعالى عنه-: «يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها» (رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما).

فالمتصدر سائل للإمارة والسائل لا يعان وإنما يوكل أمره إلى نفسه، كذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر -رضي الله تعالى عنه-: «يا أبا ذر، إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم» (أخرجه مسلم في صحيحه) وهذا التوجيه لا يمثل توجيها فرديًا متعلقًا بأشخاص معينين وإنما يمثل نهجًا عامًا يبين منهج الإسلام وموقفه من طالبي التصدر الراغبين في الإمارة الذين يبذلون جهدهم للحصول عليها.

يدل على ذلك قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في صيغة عامة غير مرتبطة بالأشخاص: فـعن أبي موسى، قال: دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحد الرجلين: يا رسول الله، أمرنا على بعض ما ولاك الله عزوجل، وقال الآخر مثل ذلك، فقال: «إنا والله لا نولي على هذا العمل أحدًا سأله، ولا أحدًا حرص عليه» (أخرجه مسلم في صحيحه) فلفظ أحد في هذا الحديث نكرة جاءت في سياق النفي وهي من صيغ العموم كما نص على ذلك علماء الأصول ولم يكتف الرسول الأمين -صلى الله عليه وسلم- بذلك حتى أكدها بالقسم وبحرف "إن" التي للتوكيد، لكن هذا كله في الظروف الاعتيادية حيث لا خطر يتهدد جماعة المسلمين وحيث يكون الأكفاء لتولي المناصب كثر.

لكن قد تحدث هناك ظروف غير اعتيادية ظروف طارئة استثنائية فهل يبقى الحكم على ما هو عليه أم أن الشريعة قد ورد فيها ما يعالج تلك الظروف الطارئة؟ الناظر في الأدلة الشرعية يجد نصوصًا قد عالجت هذه الأحوال الاستثنائية وجعلت لها أحكامًا تخصها وتناسبها، ففي سورة يوسف -عليه السلام- عندما رأى ملك مصر الرؤيا التي كان من تأويلها قدوم سبع سنوات عجاف على أهل مصر يتعرضون من جرائها إلى مجاعة قاتلة لم يكن هناك من يقوم بالأمر على وجه حسن مقبول غير يوسف -عليه السلام- تصدى للمهمة وطلبها عونًا منه للناس على تجاوز الأزمة القادمة القاتلة التي يمكن أن تودي بحياة أمة فقال للملك: {اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}.


وقد وقف خالد بن الوليد -رضي الله تعالى عنه- قريبًا من هذا الموقف عندما كان في غزوة مؤتة وقتل الأمراء الذين عينهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصبح الجيش بلا قيادة تقدم خالد -رضي الله تعالى عنه- في هذا الموقف العصيب ليتحمل المسئولية الثقيلة التي هي مغرم وليست مغنمًا ويملأ الفراغ حتى سماه الرسول -صلى الله عليه وسلم- يومها سيف الله، وهذا مما يبين الموقف الأخلاقي الذي ينبغي أن يتخلق به المسلم الصادق وهو الإقدام في أوقات الشدة والنوازل وتحمل المسئولية فالإقدام والتصدر في مثل هذه المواطن لا تقدم عليه إلا النفوس الأبية الصادقة التي تقدم مصلحة الأمة بما فيها من تحمل التبعات على المصلحة الشخصية بالابتعاد عن مواطن الشدة والركون إلى الراحة والتمتع بملذات الدنيا.

ولو نظرنا إلى ما يدور حولنا هذه الأيام بعد قيام الثورات الشعبية وتحرر بعض الشعوب من بطش الطغاة انفتح الباب أمام تولي المراكز القيادية كرئاسة الدولة والترشح للمجالس النيابية التي من خلالها تدار البلاد وتسن الأنظمة والقوانين، أقول في ظل رغبة الكثيرين ممن لا يصلحون للقيادة ولا الريادة التقدم لملء تلك المراكز لا يكون من اللائق ابتعاد الخيرين عن المزاحمة على ذلك اعتمادًا على الحالة الأولى التي ذكرت في هذا المقال فإن هذا يعد من قبيل خذلان الأمة وتركها لقمة سائغة تمضغها الأفواه المريضة، وما يقدم من حجج أو مسوغات للابتعاد عن محاولة الوصول إلى هذه المراكز لا تقاوم النتائج الفاسدة المترتبة على ابتعادهم وترك الأمر لمن لا يرقبون في الأمة ودينها إلا ولا ذمة ولعلي من هنا أهيب بكل صالح لملء هذه المراكز أن يبادروا إلى استحوازها كما أهيب بالمسلمين أن يؤازروهم ولا يختاروا إلا رجلًا يرون في اختياره نصرة للدين ورحمة للأمة.

أما المناصب التي لا يراد فيها إلا فرد واحد كرئاسة الدولة فلا ينبغي أن يتعدد طالبوها من الاتجاه الإسلامي لأن في التعدد تفريق للكلمة وإضعاف للصف لا يصب إلا في مصلحة المعادين للشريعة ونحن نقول هذا في ظل المتاح والممكن وإلا فإن في شرعة الإسلام -وهي مع كل أسف مغيبة في واقع كثير من الأنظمة الحاكمة- آليات ووسائل لتولي المراكز القيادية تخالف ما هو متاح وممكن في دنيا الناس اللهم مكن للخيرين وأبعد أهل الشر وأعوان الشياطين.



 

محمد بن شاكر الشريف

باحث وكاتب إسلامي بمجلة البيان الإسلاميةوله عديد من التصانيف الرائعة.

  • 8
  • 0
  • 2,839

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً