أسعار العملات اليوم
ولكن هل فكرت في تحويل رأس مالك الحقيقي إلى عملة لا تهبط ولا تنخفض بل تزيد؟ هل فكرت في استثمار مالك في تجارة لن تبور؟ هل عملت حسابًا ليوم لا ينفع فيه الدرهم ولا الدينار، ولا الجنيه والدولار؟
في ظل انخفاض العملة المحلية في كثير من البلاد مقابل العملات الأجنبية الأخرى يبحث كثير من الناس عن استبدال ما معهم من عملات بعملات أكثر قيمة؛ خوفًا من انهيار قيمة ما معهم، فقد يحدث أن يصير كل ما معهم ليس له قيمة، مجرد أوراق كأوراق الألعاب الورقية التي يلعب بها الأطفال؛ بل قد تنخفض لتكون قيمتها أقل من قيمة الورق الذي طُبِعت عليه كما حدث في بعض الدول كفنزولا.
ولكن هل فكرت في تحويل رأس مالك الحقيقي إلى عملة لا تهبط ولا تنخفض بل تزيد؟ هل فكرت في استثمار مالك في تجارة لن تبور؟ هل عملت حسابًا ليوم لا ينفع فيه الدرهم ولا الدينار، ولا الجنيه والدولار؟
هل فكرت في اقتراب يومٍ المفلسُ فيه ليس من لا يملك فيه الأموال، المفلسُ فيه هو المفلسُ من الحسنات؟
كما يفكر بعض الأثرياء في تحويل أموالهم للبنوك الأجنبية خارج بلادهم، هل فكرت في تحويل أموالك واستثماراتك إلى الدار الباقية؟
في حين يخسر كثير من الناس قيمة سلعهم ويبيعونها بسعر بخس ويغبنون فيها، هل ستخسر أنت سلعتك من الأيام والساعات وتُفرِّط فيها بسعر قليل فضلًا عن أن تتركها للصوص الوقت وقُطَّاع الطُّرُق يسلبونها دون وعي منك أو حتى بوعي؟
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].
لابن القيم كلام جميل وقيِّم في شرح الآية أنقله ببعض التصرف، يقول رحمه الله: (فجعل سبحانه ها هنا الجنة ثمنًا لنفوس المؤمنين وأموالهم بحيث إذا بذلوها فيه استحقوا الثمن وعقد معهم هذا العقد.
أفهمت الآية خطر النفس الإنسانية وشرفها وعظم مقدارها، فإن السلعة إذا خفي عليك قدرُها فانظر إلى المشتري لها من هو، وانظر إلى الثمن المبذول فيها ما هو، وانظر إلى ما جرى على يده عقد التبايُع، فالسلعة النفس، والله سبحانه المشتري لها، والثمن جنات النعيم، والسفير في هذا العقد خيرُ خلقه من الملائكة وأكرمهم عليه وخيرهم من البشر وأكرمهم عليه.
وفي جامع الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( «من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة» ))؛ (حديث حسن غريب) .
أكْثَرُ الخَلْقِ قَدْ نَسَوا حَقِيقَةَ أنْفُسِهِمْ وضَيَّعُوها، وأضاعُوا حَظَّها مِنَ اللَّهِ، وباعُوها رَخِيصَةً بِثَمَنٍ بَخْسٍ بَيْعَ الغَبْنِ، وإنَّما يَظْهَرُ لَهم هَذا عِنْدَ المَوْتِ، ويَظْهَرُ هَذا كُلَّ الظُّهُورِ يَوْمَ التَّغابُنِ، يَوْمَ يَظْهَرُ لِلْعَبْدِ أنَّهُ غُبِنَ في العَقْدِ الَّذِي عَقَدَهُ لِنَفْسِهِ في هَذِهِ الدَّارِ، والتِّجارَةِ الَّتِي اتَّجَرَ فِيها لِمَعادِهِ، فَإنَّ كُلَّ أحَدٍ يَتَّجِرُ في هَذِهِ الدُّنْيا لِآخِرَتِهِ.
فالخاسِرُونَ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أنَّهم أهْلُ الرِّبْحِ والكَسْبِ اشْتَرَوُا الحَياةَ الدُّنْيا وحَظَّهم فِيها ولَذّاتِهِمْ، بِالآخِرَةِ وحَظِّهِمْ فِيها، فَأذْهَبُوا طَيِّباتِهِمْ في حَياتِهِمُ الدُّنْيا، واسْتَمْتَعُوا بِها، ورَضُوا بِها، واطْمَأنُّوا إلَيْها، وكانَ سَعْيُهم لِتَحْصِيلِها، فَباعُوا واشْتَرَوْا واتَّجَرُوا وباعُوا آجِلًا بِعاجِلٍ، ونَسِيئَةً بِنَقْدٍ، وغائِبًا بِناجِزٍ، فَأكْثَرُ الخَلْقِ في هَذِهِ التِّجارَةِ الخاسِرَةِ الَّتِي قالَ اللَّهُ في أهْلِها: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 86]، وقالَ فِيهِمْ: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16]، فَإذا كانَ يَوْمُ التَّغابُنِ ظَهَرَ لَهُمُ الغَبْنُ في هَذِهِ التِّجارَةِ، فَتَتَقَطَّعُ عَلَيْهِمُ النُّفُوسُ حَسَراتٍ.
وَأمَّا الرَّابِحُونَ فَإنَّهم باعُوا فانِيًا بِباقٍ، وخَسِيسًا بِنَفِيسٍ، وحَقِيرًا بِعَظِيمٍ، وقالُوا: ما مِقْدارُ هَذِهِ الدُّنْيا مِن أوَّلِها إلى آخِرِها، حَتَّى نَبِيعَ حَظَّنا مِنَ اللَّهِ تَعالى والدَّارِ الآخِرَةِ بِها؟ فَكَيْفَ يَنالُ العَبْدُ مِنها في هَذا الزَّمَنِ القَصِيرِ الَّذِي هو في الحَقِيقَةِ كَغَفْوَةِ حُلْمٍ، لا نِسْبَةَ لَهُ إلى دارِ القَرارِ ألْبَتَّةَ: قالَ تَعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} [يونس: 45].
فَهَذِهِ حَقِيقَةُ الدُّنْيا عِنْدَ مُوافاةِ يَوْمِ القِيامَةِ، فَلَمَّا عَلِمُوا قِلَّةَ لُبْثِهِمْ فِيها، وأنَّ لَهم دارًا غَيْرَ هَذِهِ الدَّارِ، هي دارُ الحَيَوانِ ودارُ البَقاءِ- رَأوْا مِن أعْظَمِ الغَبْنِ بَيْعَ دارِ البَقاءِ بِدارِ الفَناءِ، فاتَّجَرُوا تِجارَةَ الأكْياسِ، ولَمْ يَغْتَرُّوا بِتِجارَةِ السُّفَهاءِ مِنَ النَّاسِ، فَظَهَرَ لَهم يَوْمَ التَّغابُنِ رِبْحُ تِجارَتِهِمْ ومِقْدارُ ما اشْتَرَوْهُ، وكُلُّ أحَدٍ في هَذِهِ الدُّنْيا بائِعٌ مُشْتَرٍ مُتَّجِرٌ، وكُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُها أوْ مَوْبِقُها.
مَهْرُ المَحَبَّةِ والجَنَّةِ بَذْلُ النَّفْسِ والمالِ لِمالِكِهِما الَّذِي اشْتَراهُما مِنَ المُؤْمِنِينَ، فَما لِلْجَبانِ المُعْرِضِ المُفْلِسِ وسَوْمِ هِذِهِ السِّلْعَةِ، بِاللَّهِ ما هُزِلَتْ فَيَسْتامَها المُفْلِسُونَ، ولا كَسَدَتْ فَيَبِيعَها بِالنَّسِيئَةِ المُعْسِرُونَ، لَقَدْ أُقِيمَتْ لِلْعَرْضِ في سُوقِ مَن يُرِيدُ، فَلَمْ يَرْضَ رَبُّها لَها بِثَمَنٍ دُونَ بَذْلِ النُّفُوسِ، فَتَأخَّرَ البَطَّالُونَ، وقامَ المُحِبُّونَ يَنْتَظِرُونَ أيُّهم يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ نَفْسُهُ الثَّمَنَ، فَدارَتِ السِّلْعَةُ بَيْنَهم ووَقَعَتْ في يَدِ {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54])؛ انتهى، رحمه الله.
ولا يوجد كلام يُقال بعد كلام ابن القيم رحمه الله، فبادِرْ بحفظ مالك من الضياع، واستبدله بخير متاع، عسى أن تكون من الفائزين يوم يندم النادمون على ما فَرَّطوا في بضاعتهم.
لا تُفرِّط في عمرك وأيامك، فإنه رأس مالك، إنما أنت أيام إذا ذهب يومُك ذهب بعضُك.
لا تصحب البطَّالين فإنهم يقطعون طريق تجارتك، وينهبون سلعتك.
ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله هي الجنة، فبادِرْ بدفع ثمنها، فما زال الثمن حاضرًا معك.
_________________________________________________
الكاتب: سمر سمير
- التصنيف: