تذمّر رجل!
جلس في مكانه وبدأ يشكو.. كأنّما يحمل حِملا كبيرًا يريد إلقاءه عن كاهله إذ أثقله، ومع أننا كنا في شأنٍ آخر إلا أننا صمتنا رغبة ورهبة، كان يتكلم بحرقة وكأنه يجرش معاناته ومعاناة كل مَن يعرف من الرجال دون قصد نصرتهم، بل جلّ ما أراد فعله هو إزاحة الغطاء عن نكب الزمان التي جعلتهم يئنون تحت نير التعب وعدم الاستئناس! كنت أصغي إليه متأثّرة بما يقول، ويحدوني أمل أن ينصت هو أيضاً لصوت المرأة التي طوت صفحة الراحة وزهو العيش مذ قبلت أن تدخل بيت الزوجية، بكل ما فيه من مسؤوليات تجعلها تنسى حظها من الدنيا، لتلتفت بعاطفتها المتأصّلة إلى بيتها وزوجها وأولادها.. على حساب نفسها في أغلب الأحيان، عن هذه الفئة أتحدث، وليس عن تلك التي لا تقرأ في مفردات الزواج إلا القيمة المادية للأمور، ولا تراعي زوجًا أو ولدًا فكل ما يهمها هو انغماسها في أوحال الفناء..!
كان هذا الرجل يحمل قضية الرجال الذين يعملون خارج البيت، ويدافع عنهم وعما يجدونه حين يعودون إلى أُسَرِهِم ليرتاحوا بعد طول عناء، فقد ناطحوا التعب والزبائن وربّ العمل، والأوراق والأرقام وزحمة السير والغلاء والفتن، ثم أرادوا دخول البيت ليجدوا الزوجة المتزيّنة البشوشة الجميلة، التي أزاحت طوعًا كل ما في طريقها بغية إسعادهم والترويح عنهم، وتهيئة الأجواء لهم لتهدأ نفوسهم وقلوبهم وعيونهم، وليرفلوا بثوب الراحة بعد العناء..!
جميل.. كل ما سبق مطلوب من الزوجة، وهو أمر مشروع ولا غبار عليه، ولكن من أين تبدأ مشكلة (كيف)؟
هذه المرأة التي يطالبها الرجل بكل ذاك، لم تكن في البيت حين كان يعمل، فقد كانت في العمل هي أيضًا، فالظروف الاقتصادية سيئة للغاية مما اضطرها للعمل مع زوجها لتخفف عنه الأعباء وتساعده في تكاليف الحياة، ضاربة بعرض الحائط قدراتها الإنسانية المحدودة، حتى إذا ما عادت إلى مملكتها وجدت مسؤوليات تقوم بها عن طيب نفس، ولكنها تصرف من مخزون طاقتها الذي نفذ قسم كبير منه في عملها الوظيفي، ولكنها تكابر وتلتفت بكل عاطفة الأمومة إلى تربية الأولاد وتدريسهم والعناية بهم، وكذلك العمل في البيت وترتيبه وتنظيفه، وتأمين الطبخ والكوي والغسيل، ثم تلبية حاجات المريض من العائلة وسماع شكوى المكروب فيها، وغيرها الكثير من المسؤوليات التي ترهق كاهلها، وقد تكون معلِّمة مما يستدعي منها التحضير والتصحيح لليوم التالي، فلا يأتي الليل إلا وهي غير قادرة على الحركة ربما، وقد تصلّي ثم لا تدرك أصلّت العشاء ثلاثاً أم أربعا..!
هذه هي نفس المرأة التي يظن الرجل أنها من حديد أو (روبوت) باستطاعتها إنجاز كل شيء بكبسة زر وبوقت خيالي، وبدون معاناة نفسية أو ذهنية أو عاطفية حين التعاطي مع مجريات الأحداث في بيتها..! وهذه هي نفس المرأة المُطالَبة بتزيين نفسها لزوجها ليعود من عمله ويجدها بأبهى حلّة، وقد انتهت من تبِعات العمل المنزلي لتخدمه هو، وهي نفسها التي يتوجب عليها أن تهيئ جو البيت فلا صراخ أطفال ولا أصوات مزعجة، لأن من حقه أن يرتاح في بيته..!
يقول: "حين يعود الرجل إلى البيت وهو مثقل بالتعب يحتاج أن يرتاح ولا يسمع أي كلمة من زوجته، التي تبدأ بصف الكلام بسرعة قياسية، وأفضل ما يفعله برأيه عند ذاك هو أن يفتح التلفاز لكي لا يسمع شيئاً آخر". عجبتُ تمامًا من هذا الكلام، فكيف يفكر الزوج أن ينعزل عن كل مجريات الأمور في البيت ليرتاح؟! وهذه الزوجة متى ترتاح؟ إن كانت بكرم أخلاقها قد ارتضت أن تعمل خارج المنزل لأن زوجها لا يستطيع أن يكفي المؤونة، فهل يكون نصيبها هو التذمر والانسلاخ عنها؟! وألفِت هنا إلى أن المؤونة هي مستلزمات البيت وليس الكماليات والمفاخرة..
أليست تلك المرأة روحًا بحاجة لمن يسلي عنها، يُنسيها هي أيضًا مكافحتها في العمل وما تلاقيه هناك؟ أليست بحاجة لمساعدة في تربية الأولاد والأعمال المنزلية؟ أليست بحاجة إلى من يحتويها؟ أليست جسدًا يمكن أن يخور حين يُستَنفَذ، وطاقة تضعف، ونفساً تذوب؟!
يقول: "المرأة لديها قدرات زائدة عن اللزوم! وباستطاعتها القيام بكل المسؤوليات، بينما الرجل يحتاج بعد العمل لراحة ليستعيد نشاطه، ويبدأ نهارًا جديدًا في اليوم التالي". عجبتُ لهذا التوجّه لدرجة أنه لجمني عن الرد..! ومما زاد حنقي أنه استطاع أن يستنبط قدرات المرأة الزائدة..! ولكنه لم يكتشف كم هي بحاجة لرعاية وحنان واهتمام، ودعم لتكمل مسيرة عطائها، وقد تكون المرأة في بداية حياتها الزوجية ونتيجة لمحبتها لزوجها تريد التخفيف عنه، فتقوم هي بشراء حاجيات المنزل من (أكل وخضراوات، وغيرها..) أو تقوم راغبة بإيصال الأولاد إلى المدرسة، أو تأمين مستلزمات الحياة، وعند مفترق الطريق تشعر أنها لا تستطيع إيفاء كل هذه المسؤوليات، وتحتاج أن يستعيد الزوج نصيبه منها، فيتلكأ إذ أصبحت هذه الأمور خارج لائحة مهامه، وما كان البارحة تطوعًا من الزوجة يصبح اليوم واجبًا عليها فلا تمنّن..!
ويهدّد الرجل أنه لو بقي الوضع على ما هو عليه فبإمكانه أن يفتش عن راحته في مكان آخر، فيتزوج من أُخرى ترعى شؤونه وتسعده، فيهرب من عجقة الأطفال ومن انشغال الزوجة، وكأن الأطفال هم أطفالها لوحدها..! وتكون خطوته تلك بمثابة الدرع التكريمي الذي يهديها إياه بعد سنوات من التعب والتضحية، وربما شظف العيش..
يؤذيني سماع رجل يقول: "من حقي أن أعيش مرتاحًا والشرع أحلّ لي أربعة!" كيف صمّ أذنيه عن كل ما ورد في الشرع منصِفًا للمرأة مرغّبًا بتكريمها حاثًّا على احتوائها، بل أكثر من ذلك فقد يتّهم هذا الرجل زوجته أنها هي مَن ألقَت به في حضن زوجة أُخرى! فقد كان حريًا بها أن تسكت وتعمل بصمت وبسرعة مكوكية لتنهي كل أعمالها المنزلية والتربوية، ما بين وصولها ووصوله إلى المنزل، وإن لم تنتهِ من العمل فلتنتهِ عن الكلام..!
ويحضرني هنا سؤال لهذا الرجل: هل تعتقد أن الزوجة التي لا ترعاها وتراعي خصائصها النفسية ومتطلباتها سترتاح في بيتك معها؟ لو تدري كم تفقد من الراحة والسكن حين لا تبالي ولا تهتم! وقد كان الحبيب عليه الصلاة والسلام في مهنة أهله، وكان يحلب شاته ويخدم نفسه، ويخصف النعل ويرقّع الثوب، وهو مَن هو صلوات ربي وسلامه عليه، فكم تحمل أنت بمقابل حِمل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
ومع هذا أهمس لهذه المرأة، أوجزي في الكلام دون التوغل في تفاصيله، حتى لا تثقلي عليه، وحاولي توزيع الوقت بالطريقة الفضلى بين الأولويات، بحيث يكون لزوجك نصيب موفور، وتحاورا، تصارحا، ثم تحاورا.. لتصِلا إلى منطقة وسطى تجدان فيها السعادة والرحمة والسكن، فأسرتكما تستحق..
- التصنيف: