{ وإذ استسقى موسى لقومه }

منذ 2023-07-09

قال تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60].

قال تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60].

 

{وَإِذِ} واذكروا، وقد أشارت الآية إلى حادثة معروفة عند اليهود في التوراة {اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} طلب لهم من الله تعالى السُّقْيا؛ أي: الماء للشرب وغيره، وكان هذا الاستسقاء في التيه، وهذا هو الإنعام التاسع، وهو جامع لنعم الدنيا والدين؛ أما في الدنيا فلأنه أزال عنهم الحاجة الشديدة إلى الماء، ولولاه لهلكوا في التيه، وهذا أبلغ من الماء المعتاد في الإنعام؛ لأنهم في مفازة منقطعة.

 

وأما في الدين فلأنه من أظهر الدلائل على وجود الصانع وقدرته وعلمه، وعلى صدق موسى عليه السلام.

 

قال ابن عاشور: تذكير بنعمة أخرى جمعت ثلاث نِعَم؛ وهي: الري من العطش، وتلك نعمة كبرى أشد من نعمة إعطاء الطعام؛ ولذلك شاع التمثيل برِيِّ الظمآن في حصول المطلوب، وكون السقي في مظنة عدم تحصيله، وتلك معجزة لموسى وكرامة لأمته؛ لأن في ذلك فضلًا لهم، وكون العيون اثنتي عشرة ليستقل كل سبط بمشرب، وذلك التقسيم من الرفق بهم؛ لئلا يتزاحموا ويتدافعوا مع كثرتهم فيهلكوا.

 

{فَقُلْنَا اضْرِب بِعَصَاكَ} عصا موسى التي كانت معه منذ خرج من بلاد مدين، وهذه "العصا" كان فيها أربع آيات عظيمة:

    أولًا: أنه يلقيها، فتكون حيَّةً تسعى، ثم يأخذها، فتعود عصًا.


    ثانيًا: أنه يضرب بها الحجر، فينفجر عيونًا.


    ثالثًا: أنه ضرب بها البحر، فانفلق؛ فكان كل فرق كالطود العظيم.


    رابعًا: أنه ألقاها حين اجتمع إليه السحرة، وألقوا حبالهم وعصيَّهم، فألقاها فإذا هي تلقف ما يأفكون.

     

    {الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ} تشققت منه هذه العيون، ومنه سمي "الفجر"؛ لأنه ينشق به الأفق، وجاء هنا: {فَانفَجَرَتْ} وفي الأعراف: {فَانْبَجَسَتْ} [الأعراف: 160] فقيل: هما سواء، انفجر وانبجس وانشقَّ مترادفات، وقيل: بينهما فرق؛ وهو أن الانبجاس أضيق فهو أوَّلُ خروج الماء، والانفجار اتِّساعُه وكثرتُه، وظاهر القرآن استعمالهما بمعنى واحد؛ لأن الآيتين قصة واحدة.

     

    والفاء في قوله: {فَانفَجَرَتْ} قالوا: هي فاء فصيحة، وهي الفاء العاطفية؛ إذ لم يصلح المذكور بعدها لأن يكون معطوفًا على المذكور قبلها، فيتعيَّن تقدير معطوف آخر بينهما يكون ما بعد الفاء معطوفًا عليه، فتسميتها بالفصيحة؛ لأنها أفصحت عن محذوف، والتقدير في مثل هذا: «فضرب فانفجرت».

     

    {مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} العين من الأسماء المشتركة: فالعين من الماء مُشَبَّهَةٌ بالعين من الحيوان لخروج الماء منها؛ كخروج الدمع من عين الحيوان.

     

    وكل عين يشرب منها سبط من أسباطهم الاثني عشر حتى لا يتزاحموا فيتضرَّروا.

     

    {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ} من الأسباط {مَشْرَبَهُمْ} مكان شربهم، نَصَّ على المشرب تنبيهًا على المنفعة العظيمة التي هي سبب الحياة، وإن كان سرد الكلام قد علم كل أناس عينهم.

     

    {كُلُوا وَاشْرَبُوا}؛ أي: وقلنا لهم.. وقد جمع بين الأكل والشرب وإن كان الحديث عن السقي؛ لأنه قد تقدَّمه إنزال المَنِّ والسَّلْوى، وبدأ بالأكل؛ لأنه المقصود أولًا، وثنَّى بالشرب؛ لأن الاحتياج إليه حاصل عن الأكل.

     

    {مِنْ رِزْقِ اللَّهِ} ولما كان مأكولهم ومشروبهم حاصلين لهم من غير تعب منهم ولا تكلُّف، أضيفا إلى الله تعالى، وإن كانت جميع الأرزاق منسوبة إلى الله تعالى، سواء كانت مما تسبب العبد في كسبها أم لا، واختصَّ بالإضافة للفظ الله؛ إذ هو الاسم العَلَم الذي لا يشركه فيه أحد، الجامع لسائر الأسماء.

     

    وهذا التفات؛ إذ تقدم {فَقُلْنَا اضْرِب} ، ولو جرى على نَظْم واحد لقال: من رزقنا.

     

    وفيه أن الله سبحانه وتعالى «قادر جواد»؛ ولهذا أجاب الله تعالى دعاء موسى؛ لأن العاجز لا يسقي، والبخيل لا يُعطي.

     

    {وَلَا تَعْثَوْا} العَثي والعِثِيُّ: شدة الفساد والإسراع فيه {فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} حالًا مؤكدة لعاملها.. والإفساد العمل بغير طاعة الله ورسوله فى كل مجالات الحياة، فالإفساد في الأرض يكون بالمعاصي.

     

    لما أُمِروا بالأكل والشرب من رزق الله، ولم يقيد ذلك عليهم بزمان ولا مكان ولا مقدار من مأكول أو مشروب، كان ذلك إنعامًا وإحسانًا جزيلًا إليهم، واستدعى ذلك التبسُّط في المآكل والمشارب، وأنه ينشأ عن ذلك القوة الغضبية، والقوَّة الاستعلائية، نهاهم عما يمكن أن ينشأ عن ذلك؛ وهو الفساد، حتى لا يقابلوا تلك النِّعَم بما يكفرها؛ وهو الفساد في الأرض.

     

    كذلك النعمة قد تُنْسي العبد حاجته إلى الخالق فيهجر الشريعة فيقع في الفساد؛ قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6، 7].

    خالد سعد النجار

    كاتب وباحث مصري متميز

    • 0
    • 0
    • 315

    هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

    نعم أقرر لاحقاً