الحرية وضوابطها في الإسلام
ولا يعني بطبيعة الحال إقرار الإسلام للحرية أنه أطلقها من كل قيد وضابط، لأن الحرية بهذا الشكل أقرب ما تكون إلى الفوضى، التي يثيرها الهوى والشهوة
د. بدر عبد الحميد هميسه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحرية حق مكفول لجميع الناس , فالله تبارك وتعالى خلق الإنسان ومنحه حرية اختيار العقيدة والدين وحرية التعبير عن الرأي وحرية التصرف, قال تعالى : " { وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) } [ سورة الكهف] .
وقال مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم : " { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [(99) سورة يونس] .
عن أنس بن مالك : كنا عند عمر بن الخطاب - رضوان الله عليه - إذ جاءه رجل من أهل مصر ، فَقَالَ : يا أمير المؤمنين ، هذا مقام العائذ بِكَ ، قَالَ : وما لك ؟ قَالَ : أجرى عمرو بن العاص بمصر الخيل فأقبلت فرسي ، فلما رآها الناس قام مُحَمَّد بن عمرو فَقَالَ : فرسي ورب الكعبة ؛ فلما دنا مني عرفته ، فقلت : فرسي ورب الكعبة فَقَامَ إلي فضربني بالسوط ، ويقول : خذها وأنا ابن الأكرمين .فوالله ما زاده عمر على أن قَالَ له : اجلس ، ثم كتب إلى عمرو إذا جاءك كتابي هذا فأقبل ، وأقبل معك بابنك مُحَمَّد ؛ فدعا عمرو ابنه فَقَالَ : أأحدثت حدثاً ؟ أجنيت جناية ؟ قَالَ : لا ، قَالَ : فما بال عمر يكتب فيك .فقدم على عمر ؛ فو الله إنا عند عمر حتَّى إذا نحن بعمرو وقد أقبل في إزار ورداء ، فجعل عمر يلتفت هل يرى ابنه ، فإذا هو خلف أبيه ، فَقَالَ : أين المصري ؟ فَقَالَ : ها أنا ذا ،قَالَ : دونك الدرة فاضرب ابن الأكرمين ، اضرب ابن الأكرمين ، فضربه حتَّى أثخنه .ثم قَالَ : أحلها على صلعة عمرو ! فو الله ما ضربكَ إلا بفضل سلطانه فَقَالَ : يا أمير المؤمنين قد ضربت من ضربني ، قَالَ : أما والله لو ضربته ما حلنا بينك وبينه حتَّى تكون أنت الَّذِي تدعه ، أيا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهم أحراراً ثم التفت إلى المصري ، فَقَالَ : أنصرف راشداً ، فإن رابكَ ريب فاكتب إلى . انظر : ابن عبد الحكم في : فتوح مصر ( ص 290 ) .
فالحرية إذن مطلب لا يختلف فيه اثنان, ولا يتناطح عليه عمدان ؛ إلا أن تلك الحرية لا تؤتي ثمارها الحقيقة إلا في ظلال الممارسة الصحيحة لها. بما لا يتعارض مع الدين. أو الأخلاق. أو قوانين الدولة. أو حقوق الآخرين وحرياتهم,وكما قيل : إن حريتك تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين , فلا تعني حرية الرأي ما يذهب إليه بعض الناس من أن يعلن إلحاده، ويهاجم العقيدة الإسلامية، بحجة تحرير الفكر من الجمود أو الخرافة أو الطغيان، وليس للكاتب أو الأديب أن يفهم الحرية بأن يقول ما يقول؛ فالحرية تُمارس لكن في إطار النظام العام وميزان الشريعة.
ولا تعني الحرية التعدي على ثوابت الدين ومسلمات الشريعة ’ قال الله تعالى: {(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ) } [القصص: 50].
ولا يعني بطبيعة الحال إقرار الإسلام للحرية أنه أطلقها من كل قيد وضابط، لأن الحرية بهذا الشكل أقرب ما تكون إلى الفوضى، التي يثيرها الهوى والشهوة ، ومن المعلوم أن الهوى يدمر الإنسان أكثر مما يبنيه ، وتتمثل الضوابط التي وضعها الإسلام للحرية في :
أ- ألا تؤدي حرية الفرد أو الجماعة إلى تهديد سلامة النظام العام وتقويض أركانه.
ب- ألا تفوت حقوقاً أعظم منها،وذلك بالنظر إلى قيمتها في ذاتها ورتبتها ونتائجها.
ج - ألا تؤدي حريته إلى الإضرار بحرية الآخرين.
فالحرية الشخصية تتضمن شيئين :
أولاً : حرمة الذات: وذلك بعدم الاعتداء عليها , قال تعالى: \" { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} [(32) سورة المائدة] .
ثانياً : تأمين الذات: بضمان سلامة الفرد و أمنة في نفسه و عرضه و ماله: عنْ أَبِى سَعِيدٍ , قَالَ: « قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في حَجَّةِ الْوَدَاعِ : أَلاَ إِنَّ أَحْرَمَ الأَيَّامِ يَوْمُكُمْ هَذَا , ألا وَإِنَّ أَحْرَمَ الشُّهُورِ شَهْرُكُمْ هَذَا , ألا وَإِنَّ أَحْرَمَ الْبِلاَدِ بَلَدُكُمْ هَذَا , أَلاَ وَإِنّ َدِمَاءَكُمْ وأَمْوَالَكُمْ , عَلَيْكُمْ حَرَامٌ , كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا , في شَهْرِكُمْ هذا في بَلَدِكُمْ هَذَا , أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ ؟ قَالُوا نَعَمْ , قَالَ : اللَّهُمَّ اشْهَدْ» . [أخرجه أحمد 3/80(11784)] .
ومن هنا فقد شدد الإسلام على المجاهرة بالمعاصي , والعمل على إشاعة الفاحشة في المجتمع ؛ لأن ذلك فيه لون من ألوان التعدي على حرية الآخرين , قال تعالى : " { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [(19) سورة النور] .
عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ « سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: كُلُّ أمتي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ ، وَإِنَّ مِنَ الْمَجَانَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً ، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ ، فَيَقُولَ يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا ، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ» [.أخرجه البخاري 8/24(6069) و\"مسلم\" 8/224.]
فعلينا أن نعمل على توضيح المعنى الحقيقي للحرية , وأن نربي الناس على احترام حرية الآخر, وفهم قواعد الاختلاف , وأن الحرية المنضبطة بقواعد الدين والشرع والعرف الصحيح سبب لسعادة الإنسان وتقدمه.
- التصنيف:
- المصدر: