الثورات العربية... والانطلاق الدعوي

منذ 2011-11-24

أمتنا أمة دعوة في منشطها ومكرهها، وفي قوتها وضعفها، وهذا سر خيريَّتها على سائر الأمم، كما قال سبحانه: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}


أمتنا أمة دعوة في منشطها ومكرهها، وفي قوتها وضعفها، وهذا سر خيريَّتها على سائر الأمم، كما قال سبحانه: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]. فهذه الأمة هي الوحيدة الباقية على أصل التوحيد، باعتباره أعرف المعروفات، والناهية عن الشرك لكونه أنكر المنكرات. وهكذا صاغ الإسلام شخصية كل مسلم، فعقيدته (دعوة) للحياة على التوحيد، وشريعته (دعوة) للاستقامة على التوحيد، وأخلاقه (دعوة) بآثار هذا التوحيد، واحتسابه (دعوة) للصلاح والإصلاح بذلك التوحيد، وحتى جهاده (دعوة) لحفظ جناب هذا التوحيد وإدخال الناس فيه، و"عجب ربنا من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل"[1]. ولهذا أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يصدع بهذا: {قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْـمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 - 163].

والتغيُّرات والتحوُّلات الحادثة في الأمة -سواء كانت انتصارات أو انكسارات- تفرض دائماً تحركاً بالدعوة يناسبها؛ ففي حال الانتصارات والفتوحات يعقبها فتوحٌ في القلوب، فيهتدي كثيرون، لم يكن لهم بالإسلام سابق انتساب أو سابق التزام، كما أشار القرآن، في قول الله تعالى: {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ . وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 1 - 3]. وهؤلاء الداخلون يحتاجون إلى تسديد وترشيد بالدعوة لأحكام الدين عقيدة وشريعة. أما إذا كانت الأخرى، وحدثت هزائم أو انكسارات، فلا يجبر كسر الأمة، ولا يقيل عثرتها ويخرجها من جو الهزيمة، إلا الدعوة الحكيمة التي تصحح المسيرة، وتعالج الأخطاء.

وعند التأمل في أحوال الناس بعد الانتفاضات والثورات العربية الأخيرة، نجد أنه إلى جانب انفتاح أبواب الدعوة أمام الصالحين والمصلحين؛ فإن أبواباً كثيرة، قد فُتحت أمام دعاة الشيطان الواقفين على أبواب جهنم؛ حيث من أجابهم إليها قذفوه فيها كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم[2]. وفي كلا الحالتين لا مناص من إطلاق عنان الدعوة إلى الله بكل السبل، ترغيباً في سبيل المؤمنين، وترهيباً من سبيل المجرمين.

وقد كشفت تطورات تلك الثورات أن حزب الشيطان له كثير من الخلايا التي كانت نائمة، أزعجتها صيحات الإيمان هنا وهناك، فانطلقت بدعوات مضادة عالية الصوت عالمية الصدى، تستميت لأجل التشكيك في محكمات العقيدة، ومسلَّمات الشريعة وحرمات المسلمين، غير هيابة من العاقبة أو العقوبة؛ لأنها محمية بضمانةٍ (ليبرالية) كاملة في التمرد، تحت شعار (حقوق الإنسان) في أن يكفر أو يفجر، وفي ظل (قيم الديمقراطية) التي إذا فتحت باباً من أبواب الإصلاح؛ فإنها تكسر آلاف الأبواب أمام طوفان الفساد؛ لأن (قيم الديمقراطية) هذه لا تعني شيئاً غير ترسيخ العَلمانية بكل معانيها. وهذه حقيقة لا بد أن يعرفها من لا يعرفها، ويعترف بها من لا يريد الاعتراف بها.

لكن آفاقاً جديدة نحو صحوات إسلامية جديدة، بدأت بوادرها تلوح في الأفق مؤخراً، في بلدان وبيئات لم تكن قد أخذت حظها من موجات انتشار المد الإسلامي في العقود الأخيرة لشدة البطش فيها، مثل: تونس وليبيا وسورية، وهذه الصحوات المنتظَرة في تلك البلاد وغيرها، تستوجب استنفاراً دعوياً من داخلها وخارجها، يتلقف الداخلين في دين الله أفواجاً. وفي الوقت ذاته هناك مراحل جديدة من الصحوة في البلدان التي سبقت إليها الصحوات، يرجى لها أن تتحول إلى نهضات.

لكن هناك قوى داخل بلاد المسلمين وخارجها لا تريد لهذه الأمة أن تنهض بالإسلام أو تتقدم أو تصل إلى أي إنجاز أو خير لدنيا أو آخرة، وهذه القوى الكارهة للدين تتربص الآن بالبلدان التي شهدت تحولات جماهيرية لتحوِّلها إلى صدامات وصراعات وفتن لا تنتهي، والأمر كما قال الله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْـمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [البقرة: 105]، وقال: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]، وقال: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا ألَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا ألَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْـمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النساء: 141].

وهذه القوى المتربصة بالدين وأهله تتحين الفرص الآن بالبلدان التي شهدت تحولات جذرية أو كلية، لتحُول بينها وبين العودة للإسلام أو النهوض به من جديد، مصممة على إعادة الإسلاميين إلى أجواء الكبت والتضييق والتهميش والتشويش على سمعتهم وأمانتهم وكفاءتهم؛ ليحولوا بينهم وبين الجماهير المتعطشة والمتعاطفة مع الدين وأهله من الصالحين. لذلك فإن المرحلة القادمة ستشهد بذل كل المحاولات لتنشيط (دعوات مضادة) تسير مع اتجاه الثورات المضادة التي يقوم بها الملوثون المنحرفون الذين يتضررون من الاستقامة والنقاء. سيزداد هذا التكالب و(البلطجة الفكرية) كلما لاحت فرصة من فرص النجاح الإسلامي (سياسياً كان أو اقتصادياً أو اجتماعياً، أو حتى إعلامياً). أما إذا تطور نجاح مَّا في بلد مَّا؛ بحيث يتطلع الإسلاميون من خلاله إلى الوصول لمقاعد التأثير والتغيير -رئاسية كانت أو نيابية- فهنا لن تكونَ إلا الحـرب! نعم، الحـرب بكل معانيهـا، وهـذا ما دل عليه تاريخ قرن كامل من الصراع ضد مشروعات النهوض الإسلامي منذ إسقاط الخلافة العثمانية عام 1914م. فهناك بالفعل اتفاق (غير مكتوب) بين قوى الطغيان في العالم منذ نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918م، يقضي بألا يُسمَح -سِلْماً أو حرباً- لأي كيان للإسلام الصحيح بأن ينجح أو يستمر في النجاح، دون أن يحاط بالفتن والمؤامرات المجهدة أو المجهضة؛ بحيث لا يعطي ذلك الكيـان (النمـوذج) الـذي يمكـن الاقتــداء بـه فـي (قوته) و(تقدمه) و(استقلاله) و(عالميته).

ولم تكن تلك المعركة الطويلة التي خاضها -ولا يزال يخوضها- أعداء الشرق والغرب إلا تجسيداً وتطبيقاً لروح ذلك التحالف غير المقدس ضد مشروعات النهوض الإسلامي. وقد كانت ممارسات الأنظمة القمعية المحلية ضد الإسلاميين على مدى ما مضى من عقود، تمثل دور النيابة عن قوى الاستكبار الدولي في الحيلولة دون استئناف الدور العالمي الرائد للمسلمين، بعد أن نجح أعداؤهم في تشتيت وتفتيت كيانهم الجامع الأخير؛ بحيث لا يسمح بعده لبوادر مشروع إسلامي أن ينجح أو يستمر، ولذلك أُجهضت أو سُرقت كل الثورات التي كانت في بداياتها إسلامية، هذا ما حدث مع الثورات الجزائرية والتونسية والمصرية، وجهاد الشعب الليبي والسوداني وشعوب بلاد الشام والعراق، كل ذلك في النصف الأول من القرن العشرين، ولما انتصف النصف الثاني منه وبدأت بوادر الصحوة الإسلامية في التسعينيات الهجرية الموافقة للسبعينيات الميلادية؛ حوربت هذه الصحوة بشراسة وعنف، رغم بداياتها السلمية، وسط ترحيب (العالم الحر)! وهو ما كان صعباً على الفهم إلا في ضوء تنفيذ (الاتفاق غير المكتوب) بعدم السماح بنهضة إسلامية تؤمن بالعالمية في أي مكان في العالم؛ حيث لم يسمح لهذه النهضة أن تسير في طريقها في مصر -مثلاً- على يد مجموع الجماعات الإسلامية، ولا في الجزائر بقيادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ، ولا في أفغانستان على يد المجاهدين ضد الغزو السوفييتي سابقاً، ولا الطالبان لاحقاً، ولا في الشيشان ولا في البوسنة، ولا حتى في الصومال (الفقيرة) بزعامة المحاكم الإسلامية، ولا في غزة (الصغيرة) حيث تجربة حركة المقاومة الإسلامية.

ولهذا فإن المعطيات المستجدة على الساحة العربية بعد الثورات التي فتحت نوافذ الأمل أمام الإسلاميين؛ فتحت معها أبواب صراعات جديدة، تأخذ صورة حرب منهجية -لا زلنا في بداياتها- بين المشروع الإسلامي المتطلع للنهوض، والمشروعات الأخرى غير المشروعة، المصرَّة على الاستئثار والاحتكار لكل مواقع التأثير والتغيير!

التحدي الكبير والتصدي الأكبر:
لا بد من انطلاقة دعوية جديدة تواكب تحديات المرحلة الدقيقة الراهنة؛ حيت تتعدد مسوغاتها ومسبباتها؛ فإضافة إلى ما سبق إيضاحه فإن هناك عوامل عديدة تزيد من جسامة المسؤولية للانطلاق الدعوي في مجابهة (الحرب المنهجية) المقبلة ضد الإسلاميين، من هذه العوامل: أن تلك الحرب؛ مهما تسترت بالسلمية، وتدثرت بالديمقراطية، فإنها تحتاج إلى أنصار جدد من جماهير الأمة لصالح المشروع الإسلامي.

ومنها: أن الشرائح الجديدة والكبيرة التي ستلحق بركب الإسلاميين، بسبب ما فتحه الله من أبواب العودة للدعوة، ستحتاج -حتماً- لجهود استثنائية، تستوعب هؤلاء ضمن الجسد الإسلامي الواحد.
ومنها: أن (حرب الأفكار) التي أطلقها الغرب النصراني علانية منذ عشر سنوات بغرض (كسب العقول والقلوب) بالدولارات بعد الدبابات، تكتسب أبعاداً جديدة في أنماط جديدة، تتسم هذه المرة بالمجهودات المحلية المسنودة والمدفوعة بأجندات أجنبية، ومثل تلك الحرب تحتاج إلى لون جديد من الدعوة الدفاعية والهجومية، التي تحصن الأمة من الغارة التغريبية الجديدة.

ومنها: أن هناك خصوماً جدداً لمنهج الإسلام الصحيح؛ دخلوا على خط المواجهة إضافة إلى الليبراليين واليساريين العَلمانيين، وهم أزلام مشروع (فارس الجديدة) الذين عزموا على المشاركة في معترك كسب العقول والقلوب، بسحنة صفوية رافضية متسترة أحياناً بخرق صوفية! وهذا المشروع (التبشيري) الإيراني الباطني، لا يقل خطورة -إن لم يزد- عن مشروعات التنصير البابوي؛ لأن أتباع الباباوات يحاولون الدخول يائسين من نوافذ الشرك المؤصدة أمام الموحدين، أما أولئك المتشيعين فيحترفون الدخول من باب (أهل البيت) محمولين على ظهور المتصوفين!

كل ذلك يضاعف المسؤولية على العلماء والدعاة وطلبة العلم والمفكرين والمثقفين رجالاً ونساء؛ فعلى عاتقهم جميعاً تقع أمانة البلاغ؛ دفاعاً عن دعوة التوحيد، وهجوماً على مهاجميها، وهذه بعض الأفكار والمقترحات لتفعيل التحرك الدعوي الذي تحتاجه المرحلة:

أولاً: المساجد (أوسع وسائل الإعلام انتشاراً):
لأسرار عظيمة شرعت شعائر التجمع للمسلمين في بيوت الله؛ في الصلوات الخمس، وصلاة الجمعة بوجه خاص؛ حيث ألزمت الشريعة جموع الحضور من الساعين إلى ذكر الله، بالصمت والإنصات، وتركت للخطيب الناجح مهمة تعبئة القلوب والعقول، بالوصول إلى أفهام وثقافات متنوعة، لأعمار مختلفة، ذات مستويات متباينة من حيث الالتزام بالدين. وقد أزالت التحولات الأخيرة في البلاد العربية -بفضل من الله- كثيراً من العوائق التي كانت تحول دون تأدية هذه الشعيرة لوظيفتها السامية، وهنا يقترح على الإسلاميين أن يسارعوا إلى ملء الفراغ الذي اصطنعه العَلمانيون لتهوين أمر هذه الشعيرة؛ وذلك من خلال إيجاد صيغ للتواصل المنهجي بين خطباء وأئمة المساجد في صور نظامية، تأخذ شكل رابطات أو جمعيات، والأفضل نقابات؛ فالعمل النقابي الذي اتسع في بلد كمصر مثلاً ليشمل نقابة رسمية للسينمائيين، وأخرى للممثلين، وثالثة للموسيقيين، ورابعة للفنانين التطبيقيين، وخامسة للمصممين التطبيقيين، وسادسة للفنانين التشكيليين، وسابعة للسياحيين، وثامنة للرياضيين، وتاسعة للصحفيين، وحتى خصصت نقابة لأصحاب المكوس من الجمركيين... بحيث تنفق الدولة على تأهيل ورعاية أعضائها؛ هذا العمل النقابي لا بد (بعد الثورات) ألا يضيق عن نقابة للخطباء وأئمة المساجد، لأنهم أَوْلى مِن كلِّ من سبق ذكرهم بأموال دافعي الضرائب التي أحلها العَلمانيون محل الزكاة الواجب جمعها للنفقة في أبوابها، ومنها باب (في سبيل الله) الذي كان يمكن أن يرعي أحوال المبتدئين المحتاجين للرعاية من أئمة وخطباء المساجد لمصلحة الأمة كلها.

إن تكوين تلك الرابطات أو الجمعيات أو النقابات التي تنظم دور المساجد في الدعوة، لا بد منه؛ لتحقيق تنسيق أكمل لأداء أفضل، يمكن أن يؤدي دوراً محورياً في صناعة وصياغة رأي عام ناضج في القضايا العامة والهامة التي تمر بها الأمة، إضافة إلى الغرض الأصلي للمساجد؛ وهو ربط الناس بحبل الله، وبعروة الإسلام الوثقى، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْـجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9].

إن الانطلاق الدعوي إذا ركز على المساجد التي أمر الله أن تُرفَع ويُذكَر فيها اسمه، سيجعل مهمة المصلحين في الإصلاح أسهل وأشمل؛ لأن المستهدَفين بالإصلاح قد ألزمهم الشرع بالحضور للانتفاع، في مؤتمرات أسبوعية منتظمة منذ أكثر من أربعة عشر قرناً دون انقطاع؛ يحضرها عشرات الملايين، في عشرات الآلاف من خير البقاع - فخير البقاع في الأرض المساجد- فتجتمع هنا الخيرية في الزمان والمكان والإنسان، الذي هو موضوع التغيير الحقيقي في أي تحوُّل جادٍّ نافع؛ فماذا لو أُحسن توظيف منابر المساجد لتقديم خطاب دعوي راشد ومنظَّم ومستمر؟ إن هذه المهمة لن يقوم مقامها في النهوض بوعي الأمة؛ عشرات القنوات الفضائية، ومئات المواقع الإلكترونية، وآلاف المطبوعات الدورية -على أهمية كل هذا- لأن إقامة الجمعة من شعائر الله {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].

ثانياً: الفضائيات والإعلام الجديد (الفرصة سانحة لاستفاضة البلاغ):
فإبلاغ كلمة الله للعالمين من أعظم الوظائف التي تميز هذه الأمة، ومن أهم الخصائص التي وقع التفريط فيها على نحو خطير. والمساجد -رغم عِظَم دورها- لا يؤمها إلا المحبون للدين، أما اللاهون المخدوعون، فلا يسوِّغ إعراضُهم الإعراضَ عن دعوتهم، فالبلاغ واجب على كل من يعلمه، لكل من يفهمه. وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] وقد ورثت الأمة عنه صلى الله عليه وسلم واجب البلاغ، غير أنه قد طال الإهمال لمهمة البلاغ المبرئ للذمة، بدليل أن مئات الملايين من الغربيين مثلاً لم يعلموا عن الإسلام شيئاً قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فلما انتبهوا له، قُدمَت لهم صور مشوهة عنه، وتظل الأرحام تدفع لقبور تبلع زمراً من الناس، يحشرون إلى مصيرهم عمياً وبكماً وصماً، دون أن يقوم أهل دعوة التوحيد بواجب البلاغ تجاههم. وسواء كان ضحايا التقصير في البلاغ من الكفار الذين لم يُعرَض عليهم التوحيد، أو من الضلال الذين لم تُشرَح لهم أصول أهل السنة، فإن الأجواء الآن أنسب، والآفاق أرحب لجذب هؤلاء وهؤلاء إلى الدين الصحيح، من خلال طرح سليم وخطاب نقي راقٍ، يمكن توجيهه عبر القنوات الفضائية الدعوية، بعد تطويرها وتحسين أدائها، لتنتقل من مجال الكم إلى مجال الكيف، مخاطبة جمهوراً أعرض بخطاب دعوي أرحب.

وكذلك من خلال وسائل الإعلام الجديد (الفيسبوك) و(التويتر) وغيرها، فإذا كانت مشيئة الله قد جعلت لهذه الوسائل الدور الأكبر في إطلاق الثورات العربية من منطلقات دنيوية، فإنه لا يزال لها دور منتظر في تحريك الانطلاقة الدعوية بأشواق أخروية.

لا بد ونحن نتحدث عن استفاضة البلاغ، أن نتذكر أن البلاغ قسمان: بلاغ عام بأصل التوحيد، وهو ما يدخُل به المرء في أصل الدين الذي يعصم دمه وماله، ويكون به من أهل القبلة. وبين القسم الثاني: وهو البلاغ بتفاصيل وأصول التوحيد، التي يدخل المرء بمعرفتها والإيمان بها وامتثالها في عداد الفرقة الناجية من أهل السنة والجماعة.

ولا شك أن البلاغ التفصيلي الثاني بأصول أهل السنة والجماعة التي أجمع عليها سلف الأمة، لا تزال بقاع كثيرة من العالم الإسلامي في شده الافتقار إليها، إن بعض المجتمعات والبيئات حصل فيها شبه تشبُّع بمعرفة هذه الأصول، لانتشار العلم وتوافر العلماء، ولكن غيرها من البلدان -ومنها أكثر بلاد الثورات- لا تزال تعاني فقراً وقفراً في العلم بها أو الدعوة إليها، هناك حاجة حقيقية للانطلاق الدعوي بأصول السنة، وبخاصة في المجتمعات التي لا تزال غارقة في بحار الجهل والخرافة والبدعة، التي استوطنت بإشراف وحماية أنظمة الفساد والاستبداد.

ثالثاً: التعليم: (منبر الدعوة بالقدوة):
في كل المجتمعات العربية والإسلامية هناك طبقات بالملايين، تخضع للتعليم في المراحل العمرية المختلفة، من الابتدائي التمهيدي وحتى الجامعة وما بعدها، وقد كان إفساد العملية التعليمية من الناحية المفاهيمية، في ظل التسلط والاستبداد العَلماني قبل الثورات، من أكبر عوامل تعطيل النهوض بالأمة؛ نظراً لفقدان الأجيال للانتماء، فمسخت الهوية وضاعت الشخصية. وفي بلدان كمصر وليبيا والجزائر وتونس وسورية، كانت العناصر الإسلامية تُستبعَد عمداً عن مراكز التأثير التعليمـي والتربوي، لدرجة أن لا يُقبَل في درجات ومناصب التعليم العالي إلا بإذن من الأجهزة الأمنية، وما ذلك إلا لعلم العَلمانيين بخطورة موقع المعلم، وبخاصة في مراحل بناء الشخصية الفكرية للمتعلم. وقد كان الأمن يتضافر مع الإعلام في تشويه صورة المعلم الملتزم، حتى تنطبع صورة منفرة عنه.

وحتى العلم الشرعي كانت معاهده وجامعاته لا تكاد تهيأ إلا للمستويات الأدنى ثقافياً ومعرفياً، حتى اشتهر عن الشيخ محمد الغزالي رحمه الله قوله: "إن التعليم الديني في بلادنا، صيغت أنظمته بحيث لا يسمح في الالتحاق به، إلا للموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع"!
لكن الآن بفضل الله وحده، زالت -أو كادت تزول- كل العقبات التي كانت تحول بين الإسلاميين، وبين تسلُّم أماكن التأثير الجديرة بهم في العملية التعليمية، التي تدمج بين القدرة والقدوة، وتربط بين العلم والدعوة؛ سواء في مجال التعليم الديني، أو التعليم الدنيوي، ويمكن في هذا الصدد، مراعاة ما يلي:

• السعي لإنهاء الخصومة المفتعلة بين ما يسمى بـ (العلم المدني) و (العلم الديني): حيث سعى العَلمانيون بكل طاقاتهم إلى إعلاء شأن العلوم الدنيوية على العلوم الشرعية في كل شيء، حتى في سلَّم التوظيف والرواتب والنظرة الأدبية للمجتمع. وسبيل إنهاء تلك الخصومة: السماح لكل من يريد طلب العلم الشرعي، بأن يلتحق بمعاهده وكلياته، دون نظر إلى المراحل التعليمة السابقة في عمره؛ حيث كان يشترط أن يكون قد بدأ التعليم الديني من بداية عمره.

• توجيه قدر من مشاريع المستثمرين، ونفقات المحسنين نحو إنشاء المدارس والمعاهد التعليمية الإسلامية في المراحل المختلفة: بحيث تصنع هذه الصروح الجديدة مناهج نقية من لوثات العَلمانية، صافية العقيدة، سليمة الفكر.

• الدفع بأجيال جديدة للالتحاق بسلك التعلم والتعليم الشرعي بكل عزة واعتداد بعد أن كان الناس يستنكفون من ذلك، حتى الطيبين؛ تأثراً بالنظرة الدون من المجتمع لمن يُقبِل على تعليم الشريعة.

رابعاً: العمل السياسي: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} القدرة والخبرة والأمانة، مؤهلات التصدي للعمل القيادي في السياسة وغيرها، وهنا يجب تغليب الجانب التكليفي على الجانب التشريفي. وإذا كانت الظروف الدولية والإقليمية والمحلية، لا تزال غير مناسبة لتصدُّر الإسلاميين للواجهة السياسية في بلاد الثورات -من وجهة نظرٍ شخصية- فإن العمل السياسي له أوجه كثيرة أخرى: كالمقاعد النيابية والشورية والإدارة الأهلية المحلية، والنقابات وجماعات الضغط السياسي وغير ذلك. ويستطيع الإسلاميون من خلالها أن يحققوا ثلاثة أهداف مهمة دون الإغراق في الانهماك في العمل السياسي على حساب العمل الدعوي:

أولها: أن يرسِّخوا وجودهم على الأرض بتكثير الأنصار ومواقع التأثير.
وثانيها: أن يجابهوا جهات الفساد والاستبداد بصورة عملية ليحولوا بينهم وبين العودة لاحتكار الصدارة في كل شيء.
وثالثها -وهو المقصود هنا-: أن يؤدوا الدور الدعوي من خلال الأداء السياسي المحسوب؛ فلا فصل -في تصورنا الإسلامي- بين ممارسة العمل السياسي والعمل الدعوي، صحيح أن هناك تخصصاً في هذا وذاك؛ لكن ذلك لا يعني الفصل على طريقة قول العَلمانيين (لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة)؛ فهذا قول ساقط، يقوله حتى بعض الإسلاميين اليوم بلسـان الحال لا بلسـان المقال، فيثبت من يقول بذلك أنه لا يفهم لا في الدين ولا في السياسة.

السياسي يمكن أن يمارس الدعوة في أجلى مظاهرها، من خلال ربط خطابه الدعوي بأدائه السياسي، وضبط أدائه السياسي بالتزامه الدعوي، فيقدم بذلك قدوة في المجالين معاً. وعمل المتدينين في المجال السياسي وأنظارهم على دعوتهم ليس بدعاً من الإسلاميين؛ فما أكثر من يمارسون السياسة في العالم -رسمياً- من أصحاب التوجهات الدينية وأعينهم على أجندات اعتقادية، مع أن أكثرها خرافية. يمكن للسياسي أن يطرح قضايا العقيدة والشريعة بكل وضوح، فتكون إحدى مهماته، مهمة الإبلاغ، ولو لم يبلغ مراده من الترشح، كفاه أن يُسمِع الغافلين كلام الله، كما فعل يوسف -عليه السلام- في شدة استضعافه، وفي قمة تمكنه، وكما يفعل الآن الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل (أحد مرشحي الرئاسة المحتملين في مصر)، الذي أدى دوراً دعوياً رائداً، حتى قبل أن تبدأ المعركة الانتخابية السياسية؛ حيث خاطب كل الاتجاهات بخطاب إسلامي عصري متوازن دون استحياء أو استعلاء.

ومِنْ رَبْط السياسة بالدعوة: أظهار حرص الإسلاميين على مصالح الناس، وحفظ أرواحهم وأموالهم وحرماتهم التي طالما فرَّط فيها أو استباحها المستبدون في العهود البائدة، ومِنْ رَبْطِمها أيضاً تقديم مفهوم الأمة المعتصمة بحبل الله، والداعية إلى سبيل الله على المفاهيم القطرية والحزبية والعنصرية، ومِنَ الربط أيضاً: تشكيل التكتلات وجماعات الضغط التي لا تسمح بالعودة لتجاوز الشريعة بتجاهل المناوئين لها للمنادين بها وهم الكثرة الكاثرة من الشعوب الثائرة.

ويدخل في ربط السياسة بالدعوة: تصدي فريق من أهل العلم والباحثين لوضع رؤى معاصرة لقضايا السياسة الشرعية التي طالما فرَّط الإسلاميون في الاهتمام النظري بها، ثم فوجئوا بالاضطرار العملي لها. ومن الربط كذلك: الإصرار والمثابرة وطول النَّفَس للمضي قدماً في تشكيل نواة (مؤسسة أهل الحل والعقد) التي تجمع كبار رموز العلم والدعوة والفكر والتخصص الدقيق في المجالات المختلفة، وقد بدأت بواكير ذلك في مصر من خلال (الهيئة الشرعية للحقوق والحريات)، فكانت بداية طيبة لمبادرة طموحة لها ما بعدها بإذن الله.

ومِنْ رَبْط السياسة بالدعوة: إعادة النظر في الموقف من العمل بالجيش في ضوء المستجدات الحادثة بعد الثورات، فالتجنيد بالجيش كان همّاً مؤرِّقاً لكل الأسر في البلاد المحكومة بالاستبداد العَلماني، مع أن الأصل في الجيش أنه يمثل مؤسسة الجهاد في سبيل الله، لكن لما كان العَلمانيون على غير سبيل، فقد تعقبوا الدين والمتدينين حتى جعلوا حصول الشباب على (شهادة) الإعفاء من الخدمة العسكرية، أهم عندهم من الحصول على الشهادة الثانوية أو الجامعية! والآن لا بد من استعادة الوجه الدعوي لمؤسسة الجهاد في سبيل الله، ولو على مراحل؛ باعتبار أن الجهاد ذروة سنام الدعوة إلى الله؛ لأنه حاميها وحافز الناس للدخول فيها على مرِّ تاريخ أمتنا وأمم الرسالات الكبرى قبلنا. وحتماً سوف تحتاج بلاد الثورات وغيرها إلى رفع لواء الجهاد بتشريعاته وشعاراته، ضد الطغاة الغزاة الذين لن ترضيهم عودة رسالة الأمة إلى أمة الرسالة {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217].

وأخيراً:
فإنَّ كل ما سبق يُعَد قليلاً جداً، من كثير جداً من المقترحات والأفكار المطلوب جمعها لتفعيلها وتطويرها. ولذلك فالمقتَرَح أيضاً أن يخصَّصَ جزء من نشاط (مراكز التفكير) والمؤسسات البحثية ذات الصبغة الإسلامية لتكوين (بنك للأفكار الدعوية) يقبل المقترحات الجادة ليحولها إلى دراسات لمشروعات قابلة للتنفيذ. فالأبواب مشرعة، والأجواء مهيأة، والمتاح اليوم قد لا يكون مباحاً غداً!
لا عذر للإسلاميين في انطلاقتهم للدعوة إلى سبيل الله في كل أشكالها، وفي كافة ميادينها؛ وخاصة أن الله قد أراهم من آياته في الآفاق وفي أنفسهم ما تبين لهم به أنه الحق وأن دينهم هو الحق، وأن العاقبة لهم ما داموا فيه وما استقاموا عليه {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129].

------------------------
[1] أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة، رضي الله عنه.
[2] أخرج البخاري في صحيحه عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنَّا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير؛ فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نعم». قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم، وفيه دخن». قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر». قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها». قلت: يا رسول الله! صفهم لنا. قال: «هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا». قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم». قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك».

  • 2
  • 0
  • 3,546

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً