اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ

منذ 2023-12-11

فأنزل الله تعالى فواتح آل عمران فيهم، وذلك رداً لباطلهم، وإقامة للحجة عليهم، وسيلاحظ هذا المتدبر للآيات ويراه واضحاً جليّاً في السياق القرآني في هذه الآيات.

بسم الله الرحمن الرحيم

{الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)} [آل عمران]

أخرج ابن جرير الطبري وغيره أن وفد نجران من بلاد اليمن والمكون من ستين راكبا فيهم أشرافهم وأهل الحلِّ والعَقْد منهم، وفدوا على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وكان ذلك سنة اثنين من الهجرة، لما بلغهم مبعث النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وكان أهل نجران متدينين بالنصرانية، وهم من أصدق العرب تمسكا بدين المسيح، وفيهم رهبان مشاهير، وقد أقاموا للمسيحية كعبة ببلادهم هي التي أشار إليها الأعشى حين مدحهم بقوله:

فَكَعْبَةُ نَجْرَانَ حَتْمٌ عَلَيْكَ ... حَتَّى تُنَاخِي بِأَبْوَابِهَا

 فاجتمع وفد منهم قوامه ستون رجلا، فيهم أربعة عشر من أشرافهم، منهم ثلاثة إليهم يؤول أمرهم: أميرهم «العاقب» واسمه عبد المسيح، ومعه «السيد» واسمه الأيهم، وهو ثِمَالُ القوم [الذي يقوم بأمر قومه ويحميهم] وولي تدبير الوفد، وَمُشِيرُهُ وَذُو الرأي فيه، وفيهم حبرهم أسقفهم وصاحب مِدْراسهم وولي دينهم «أبو حارثة بن علقمة البكري» أحد بني بكر بن وائل- وكان ملوك الروم قد أكرموه وشرَّفوه، وموَّلوه؛ لِما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم.

وذكروا من جلالتهم، وحسن شارتهم وهيئتهم. وأقاموا بالمدينة أياماً يناظرون رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في عيسى، ويزعمون تارة أنه الله، وتارة ولد الإله، وتارة: ثالث ثلاثة. ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يذكر لهم أشياء من صفات الباري تعالى، وانتفاءها عن عيسى، وهم يوافقونه على ذلك، ثم أبوا إلاَّ جحوداً، ثم قالوا: يا محمد! ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه؟ قال: «بلى». قالوا: فحسبنا. فأنزل الله فيهم صدر هذه السورة إلى نيف وثمانين آية منها، إلى أن دعاهم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى المباهلة، فأجابوا ثم استعظموا ذلك، وتخلصوا منه، ورجعوا إلى أوطانهم.

فأنزل الله تعالى فواتح آل عمران فيهم، وذلك رداً لباطلهم، وإقامة للحجة عليهم، وسيلاحظ هذا المتدبر للآيات ويراه واضحاً جليّاً في السياق القرآني في هذه الآيات.

{{الم}} لما كان أول أغراض هذه السورة الذي نزلت فيه، هو قضية مجادلة نصارى نجران حين وفدوا إلى المدينة، وبيان فضل الإسلام على النصرانية، لا جرم افتتحت بحروف التهجي، المرموز لها إلى تحدي المكذبين بهذا الكتاب، وكان الحظ الأوفر من التكذيب بالقرآن للمشركين منهم، ثم للنصارى من العرب؛ لأن اليهود الذين سكنوا بلاد العرب فتكلموا بلسانهم لم يكونوا معدودين من أهل اللسان، ويندر فيهم البلغاء بالعربية مِثْلُ السَّمَوْأَلِ، وهذا وما بعده إلى قوله {{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً}} [آل عمران:33] تمهيد لما نزلت السورة بسببه، وبراعة استهلال لذلك.

{{اللَّهُ}} علم على ذات الرب المقدسة، وهو أعلم المعارف على الإطلاق، ومعناه: المعبود حبا وتعظيما، وأصله الإله، بمعنى المألوه، وحذفت الهمزة تخفيفا كما حذفت الهمزة من «خير وشر» في مثل قول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا) [مسلم]، أي: أخيرها وأشرها.

وجيء بالاسم العلم: لتربية المهابة عند سماعه، ثم أردف بجملة {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} لا معبود بحق سواه، ردا على المشركين، وعلى النصارى خاصة.

وهناك آلهة باطلة، ولكنها آلهة وضعت عليها الأسماء بدون حق، كما قال الله تعالى: {{مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} } [يوسف:٤٠]، وقال تعالى: {{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)} } [النجم]

وبهذا التقدير للخبر في { {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}} يزول الإشكال، وهو أنه كيف ينفى الإله في مثل هذه الجملة، ويثبت في مثل قوله: {{فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ} } [هود:١٠١]، والجمع: أن تلك الآلهة باطلة، وأما الإله في: {{لا إله إلا الله}} ، أو {لا إله إلا هو} فهو إله حق، { {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} } [الحج:62].

 

ثم أتبع بالوصفين {{الْحَيُّ}} ذو الحياة المستلزمة للإرادة والعلم والسمع والبصر والقدرة، واستحقاقه للعبادة دون غيره هو كونه تعالى حيّاً أزلاً وأبداً وكل حيّ غيره مسبوق بالعدم ويلحقه الفناء، فلذا لا يستحق الألوهية إلا هو عز وجل.

قال ابن عثيمين: « أل» هنا للاستغراق، أي: الكامل الحياة، وحياة الله -عز وجل- كاملة في وجودها، وكاملة في زمنها، فهو حي لا أول له، ولا نهاية له، حياته لم تسبق بعدم ولا يلحقها زوال، هي أيضا كاملة حال وجودها لا يدخلها نقص بوجه من الوجوه، فهو كامل في سمعه وعلمه وقدرته، وجميع صفاته.. إذا رأينا الآدمي، بل إذا رأينا غير الله -عز وجل- وجدنا أنه ناقص في حياته زمنا ووجودا، فحياته مسبوقة بعدم، ملحوقة بزوال وفناء، هي أيضا ناقصة في وجودها، هل هو كامل السمع؟ الحي ليس كامل السمع، ولا البصر، ولا العلم، ولا القدرة، كل حي فهو ناقص، إذن حياته ناقصة في الوجود والزمن، ففي الزمن مسبوقة بعدم وملحوقة بزوال، وفي الوجود ناقصة في جميع الصفات.

{الْقَيُّومُ} القائم بنفسه فلا يحتاج إلى أحد، والقائم على غيره فكل أحد محتاج إليه. فهو سبحانه القيِّم على كل مخلوقاته بالتربية والرعاية والحفظ، وما عداه فليس له ذلك بل هو مربوب مرزوق، فكيف يكون إلهاً مع الله؟!

فالقيام بنفسه لأن الله سبحانه وتعالى غني عن العالمين لا يحتاج إلى أحد، لذلك وصف نفسه بالغني، كقوله تعالى: {{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}} [لقمان:٢٦]، وقوله: { {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}} [التغابن:٦]، هذا يدل على قيامه بنفسه.

أما قيامه على غيره لأن العباد كلهم فقراء إليه عز وجل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:١٥]، وقوله: { {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}} [الرعد:33]

وفي الجمع بين الاسمين الكريمين «الحي القيوم» استغراق لجميع ما يوصف الله به لجميع الكمالات، ففي الحي كمال الصفات، وفي القيوم كمال الأفعال، وفيهما جميعا كمال الذات، فهو سبحانه كامل الصفات والأفعال والذات.

قال ابن عاشور: " {{الْحَيُّ الْقَيُّومُ}} لنفي اللبس عن مسمى هذا الاسم، والإيماء إلى وجه انفراده بالإلهية، وأن غيره لا يستأهلها؛ لأنه غير حي أو غير قيوم، فالأصنام لا حياة لها، وعيسى في اعتقاد النصارى قد أميت، فما هو الآن بقيوم، ولا هو في حال حياته بقيوم على تدبير العالم، وكيف وقد أوذي في الله، وكذب، واختفى من أعدائه".

وقد ورد أن {{الْحَيُّ الْقَيُّومُ}} اسم الله الأعظم لاشتمالهما على كمال الذات والصفات والأفعال.

فعن أبي أمامة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ( «اسْمُ اللَّهِ الأَعظَمُ فِي سُوَرٍ مِنَ القُرآنِ ثَلَاثٍ: فِي البَقَرَةِ وَآلِ عِمرَانَ وَطَهَ)» . [رواه ابن ماجه، وحسَّنه الألباني في صحيح ابن ماجه]

سورة البقرة{ {اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}}

(سورة آل عمران)   :  {{اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}}

(سورة طه)  :    {{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ}}

«وعَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَالِسًا وَرَجُلٌ يُصَلِّي ثُمَّ دَعَا: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ"، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى)» [رواه أبو داود، وصححه الألباني]

{{نَزَّلَ}} بالتضعيف، فهو يساوي الهمز في أنزل، وإنما التضعيف يؤذن بقوة الفعل في كيفيته أو كميته، في الفعل المتعدي بغير التضعيف.

وقيل: يدلّ على التكثير وكثرة نزوله أنجمًا منجمًا، وأمّا التوراة والإنجيل، فقد عبّر في نزولهما بـ: {{أَنَزلَ}} التي لا تدلّ على تكثير؛ لأنهما نزلا جملة في وقت واحد، ورده أبو حيان بقول تعالى: {{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً}} [الفرقان:32]

وبعض الآيات لم يعتبر فيها التضعيف في نزول القرآن؛ كقوله تعالى: {{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ}} [الكهف:1] وقوله: { {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}} [البقرة:18] أي إنزاله جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدُّنيا.

{{عَلَيْكَ}} أي الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقد بين الله تعالى في آية أخرى أنه نزل على قلب الرسول، ليكون أدل على وعيه لهذا القرآن الذي نزل عليه، فقال جل ذكره في سورة الشعراء: {{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)}} .

{{الْكِتَابَ}} أي القرآن، فهو كتاب؛ لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، كما قال تعالى في سورة الواقعة: {{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78)}} أي اللوح المحفوظ، وهو أيضا كتاب في الصحف التي بأيدي الملائكة، كما قال تعالى في سورة عبس: {{فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)}} ، وهو كذلك كتاب في الصحف التي بأيدينا، فهو مكتوب بأيدينا ونقرأه من هذه الكتب.

قال ابن عاشور: وأما الكتاب فأصله اسم جنس مطلق ومعهود. وباعتبار عهده أطلق على القرآن كثيرا قال تعالى: {{ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ}} [البقرة:2] وقال: {{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} } [الكهف:1] وإنما سمي كتابا لأن الله جعله جامعا للشريعة فأشبه التوراة لأنها كانت مكتوبة في زمن الرسول المرسل بها، وأشبه الإنجيل الذي لم يكتب في زمن الرسول الذي أرسل به ولكنه كتبه بعض أصحابه وأصحابهم، ولأن الله أمر رسوله أن يكتب كل ما أنزل عليه منه ليكون حجة على الذين يدخلون في الإسلام ولم يتلقوه بحفظ قلوبهم.

وفي هذه التسمية معجزة للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأن ما أوحي إليه سيكتب في المصاحف، قال تعالى: { {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}} [الأنعام:92]

ولذلك اتخذ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أصحابه كتابا يكتبون ما أنزل إليه؛ من أول ما ابتدئ نزوله، ومن أولهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان.

وقد وجد جميع ما حفظه المسلمون في قلوبهم على قدر ما وجدوه مكتوبا يوم أمر أبو بكر بكتابة المصحف.

واعلم أن أبا بكر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لما أمر بجمع القرآن وكتابته كتبوه على الورق فقال للصحابة: التمسوا اسما، فقال بعضهم سموه إنجيلا فكرهوا ذلك من أجل النصارى، وقال بعضهم سموه السفر فكرهوه من أجل أن اليهود يسمون التوراة السفر. فقال عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "رأيت بالحبشة كتابا يدعونه المصحف فسموه مصحفا". يعني أنه رأى كتابا غير الإنجيل.

{{بِالْحَقِّ}} متلبِّساً بالحق ومشتملا عليه، إذا كل ما فيه حق وصدق، لا باطل فيه بأي وجه من الوجوه، فملابسته للحق اشتماله عليه في جميع ما يشتمل عليه من المعاني، قال تعالى: {{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} } [الإسراء:105] فما في القرآن إما أخبار وإما أحكام، فالحق في الأخبار الصدق، والحق في الأحكام العدل، كما قال الله تعالى: {{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً}} [الأنعام:١١٥]

ويحتمل أن يكون عائدا على التنزيل، يعني: أنه نفس النزول كان نزول حق ليس بباطل ولا كاذب، قال تعالى في سورة الشعراء: {{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211)} }، بعد قوله: {{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)}} ، فيكون بالحق، يعني: أنه نازل عليك نزولا حقا ليس بباطل، فهو ما كذب عليه الصلاة والسلام بهذا القرآن.

والمعنيان صحيحان لا يتنافيان، والقاعدة: أن النص إذا دل على معنيين صحيحين لا يتنافيان حمل عليهما جميعا.

{{مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}} من الكتب السماوية السابقة لا يخالفها ولا يبطلها لأن مصدر الجميع واحد وهو الله تعالى.

فهو حاكما عليها بالصدق في أنها من عند الله عز وجل، وشاهدا بأن التوراة حق، والإنجيل حق، وأن الزبور حق، وأن صحف إبراهيم حق، وأن الله أنزل على كل رسول كتابا.

كما أن المراد منه أنه لم يبعث نبياً قط إلاَّ بالدعاء إلى توحيده، والإيمان، وتنزيهه عما لا يليق به، والأمر بالعدل والإحسان، والشرائع التي هي صلاح أهل كل زمان. فالقرآن مصدق لتلك الكتب في كل ذلك.

وقيل: تصديقه إياها أنها أخبرت بمجيئه، ووقوع المخبَر به يجعل المخبِر صادقاً، وهو يدل على صحة القرآن، لأنه لو كان من عند غير الله لم يوافقها، قاله أبو مسلم.

فإن الكتب السابقة أخبرت بهذا القرآن أنه سينزل، ووصفت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي ينزل عليه بأوصافه التي كانوا يعرفونه بها كما يعرفون أبناءهم. 

وجعل السابق {بَيْنَ يَدَيْهِ}: لأنه يجيء قبله. فكأنه يمشي أمامه.

{{وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ}} كتاب موسى عليه السلام، اسم عبراني، ومعناه بالعبرية: «الشريعة»، وقيل: أصلة: طورا، بمعنى الهدي.

{{وَالْإِنْجِيلَ}} كتاب عيسى عليه السلام، اسم عبراني، ومعناه باليونانية: «التعليم الجديد»، وهو اسم للوحي الذي أوحي به إلى عيسى عليه السلام فجمعه أصحابه.

والتوراة والإنجيل اسمان أعجميان، وإذا ذكرا في القرآن فهما معربان، فكل اسم أعجمي إذا ذكر في القرآن فهو معرب، وليس أصله عربيا؛ لأنك لو تقول: إنه عجمي حتى بعد نزول القرآن به ما صار القرآن بلسان عربي. فالعرب لما عربوها ونطقوا بها وأجروها على ألسنتهم صارت عربية بالتعريب.

قال أهل العلم: إن التوراة الإنجيل نزلتا دفعة واحدة بدون تدريج، بخلاف القرآن، فإنه نزل بالتدريج، وهذا من رحمة الله -عز وجل- على هذه الأمة؛ لأنه إذا نزل بالتدريج صارت أحكامه أيضا بالتدريج، لكن لو نزل دفعة واحدة لزم الأمة أن تعمل به جميعه بدون تدريج، وهذا من الآصار التي كتبت على من سبقنا إذا نزلت عليهم الكتب مرة واحدة ألزموا بالعمل بها من حين أن تنزل فيما ألفوه وفيما لم يألفوه، بخلاف القرآن الكريم.

{{مِنْ قَبْلُ}} من قبل هذا الكتاب {{هُدًى}} لأجل هداية الناس، والمراد بالهداية هنا «هداية الدلالة» التي يترتب عليها «هداية التوفيق»، لكن الأصل في هذه الكتب أنها هداية دلالة؛ ولهذا قال: هدى للناس عموما، حتى الكفار تهديهم وتدلهم، تبين لهم الحق من الباطل، لكن قد يوفقون لقبول الحق والعمل به، وقد لا يوفقون.

والهدى ضد الضلال، واهتدى بمعنى صار على الطريق الصواب، وضل بمعنى انحرف وتاه وضاع، ومنه سميت الضالة، يعني: البعير الضائع التائه.

{{لِلنَّاسِ}} وخص الهدى بالتوراة والإنجيل هنا، وإن كان القرآن هدىً، لأن المناظرة كانت مع النصارى وهم لا يهتدون بالقرآن، بل وصف بأنه حق في نفسه، قبلوه أو لم يقبلوه، وأما التوراة والإنجيل فهم يعتقدون صحتهما، فلذلك اختصا في الذكر بالهدى.

{{وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ}} القرآن الذي فرق الله به بين الحق والباطل بالحجج القرآنية والمعجزات الإِلهية.

وفي وصفه بذلك تفضيل لهديه على هدي التوراة والإنجيل، لأن التفرقة بين الحق والباطل أعظم أحوال الهدي، لما فيها من البرهان، وإزالة الشبهة.

وكرر ذكره بما هو نعت له ومدح من كونه فارقاً بين الحق والباطل -بعدما ذكره باسم الجنس {{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}} تعظيماً لشأنه، وإظهاراً لفضله، وللاهتمام به، وليوصل الكلام به في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّهِ} [آل عمران:4] أي بآياته في القرآن.

قال ابن عاشور: فوصفه أولا بالكتاب وهو اسم الجنس العام ثم عبر عنه باسم الفرقان عقب ذكر التوراة والإنجيل وهما علمان ليعلم أن الفرقان علم على الكتاب الذي أنزل على محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

ووجه تسميته الفرقان أنه امتاز عن بقية الكتب السماوية بكثرة ما فيه من بيان التفرقة بين الحق والباطل، فإن القرآن يعضد هديه بالدلائل والأمثال ونحوها، وحسبك ما اشتمل عليه من بيان التوحيد وصفات الله مما لا تجد مثله في التوراة والإنجيل كقوله تعالى: {{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}} [الشورى:11]

وأذكر لك مثالا يكون تبصرة لك في معنى كون القرآن فرقانا وذلك أنه حكى صفة أصحاب محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الواردة في التوراة والإنجيل بقوله { {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}} [الفتح:29] فلما وصفهم القرآن قال: {{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}} [آل عمران:110] فجمع في هاته الجملة جميع أوصاف الكمال.

وأما إن افْتَقَدْتَ ناحية آيات أحكامه فإنك تجدها مبرأة من اللبس وبعيدة عن تطرق الشبهة، وحسبك قوله: {{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا}} [النساء:3] فإنك لا تجد في التوراة جملة تفيد هذا المعنى بله ما في الإنجيل. وهذا من مقتضيات كون القرآن مهيمنا على الكتب السالفة في قوله تعالى: {{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ}} [المائدة:48]

ولما رد وفد نجران ما حاجهم به الرسول وأقام به الحجة عليهم تأكد بذلك كفرهم فتوعدهم الرب تعالى بقوله:

{{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا}} وكل شرك كفر، وليس كل كفر شركا.. فالذي يعبد الصنم مشرك وهو كافر أيضا، والذي يجحد ما يجب الإيمان به كافر وليس بمشرك.

{{بِآيَاتِ اللَّهِ}} جمع آية، وهي العلامات الدالة على الله عز وجل، على وجوده، وعلى كماله الذاتي، وكماله الفعلي، والآيات نوعان:

1/ آيات كونية، ومنها: السماوات، والأرض، والشمس، والقمر، والنجوم، والجبال، والشجر، والدواب، والإنسان، واختلاف اللغات، واختلاف الألوان، والنوم، واليقظة، وأشياء كثيرة، هذه آيات كونية.

2/ آيات شرعية، وهي: الوحي المنزل على الرسل

أما الآيات الكونية فوجه كونها آية: أنه لا يستطيع أحد أن يفعل مثل فعل الله عز وجل أبدا، قال الله تعالى: {{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} } [الحج:٧٣]

والآيات الشرعية هي أيضا من آيات الله، ووجه ذلك: أنه لا يستطيع أحد أن يأتي بمثل شرع الله في هداية الخلق وإصلاحهم أبدا، لو اجتمع جميع مفكري العالم ليأتوا بدستور يصلح الخلق كما يصلحه ما جاء في الوحي ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، قال عز وجل: {{قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}} [الإسراء:٨٨].

لكن الآيات الكونية قد يعقلها كثير من الناس؛ لأنها آيات محسوسة مشهودة، حتى الكافر تقول له: تستطيع تخلق الذباب؟ يقول: ما أستطيع، أما الآيات الشرعية فليس كل أحد يدركها، قال الله تعالى في سورة المطففين: {{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)} لا يتبين له أنها آيات -والعياذ بالله- لماذا؟ قال الله تعالى مكذبا لقوله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)}} ، فالإنسان إذا اجتمعت الذنوب على قلبه، -نسأل الله أن يطهرنا وإياكم منها-، صار لا يرى الحق حقا ولا الباطل باطلا، عمي -والعياذ بالله- يتلى عليه القرآن فيقول: هذه أساطير الأولين، ليس كلام رب العالمين؛ ولهذا نقول: الآيات الشرعية هي التي فيها الامتحان والابتلاء، ومن ثم لم ينكر أحد الربوبية، ربوبية الله، كلٌ يقر بأن الله رب العالمين وأنه هو الذي خلق السماوات والأرض، لكن الآيات الشرعية أنكرت، قريش مثلا إذا سئلوا من خلق السماوات والأرض قالوا: الله، لكن قالوا في القرآن: إنه كهانة، وشعر، وسحر، وما أشبه ذلك.

والكفر بآيات الله شمل المشركين واليهود والنصارى في مرتبة واحدة، لأن جميعهم اشتركوا في الكفر بالقرآن، وهو من آيات الله؛ لأنه معجزة.

{{لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}} وقد ذكر الله تعالى في القرآن، وذكر نبي الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-في السنة أصنافا وأنواعا من هذا العذاب تقشعر منه الجلود وتوجل منه القلوب.

قال الله تبارك وتعالى: {{وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً}} [الكهف:٢٩].

وقال في سورة الصافات: {{أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68)}}

وقال في سورة الدخان: {{ إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)}} ،

هذا طعامهم، أما لباسهم: {{سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ}} [إبراهيم: ٥٠]، وأما مقرهم وهواؤهم: {{يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}} [العنكبوت:٥٥]، {{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً} } [النساء:٥٦]. {{وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ}} [فاطر:37]

{{وَاللَّهُ عَزِيزٌ} } من العزة، وهي ثلاثة أصناف: «عزة القدر»، «وعزة القهر»، «وعزة الامتناع»:

1/ عزة القدر بمعنى: أن الله تعالى ذو قدر شريف عظيم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (السيد الله).

2/ عزة القهر: أنه قاهر لكل شيء لا يغلب، بل هو الغالب، قال الله تعالى: {{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}} [الأنعام:١٨]

3/ عزة الامتناع، أي: أنه عز وجل يمتنع أن يناله سوء أو نقص.

فأشار بالعزة إلى القدرة التامة التي هي من صفات الذات.

{ذُو} الوصف بـ «ذو» أبلغ من الوصف بـ «صاحب»، ولذلك لم يجيء في صفات الله «صاحب».

{انْتِقَامٍ} هي المعاقبة على الذنب مبالغة في ذلك، وأشار بذي انتقام إلى كونه فاعلاً للعقاب. إذ هو عذاب عزيز منتقم كقوله: {{فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} } [القمر:42].

والانتقام أخذ المجرم بإجرامه، كما قال الله تعالى: {{إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ}} [السجدة:٢٢]، وهنا قال: {ذو انتقام}، ولم يقل: ذو الانتقام، وفي الرحمة قال: { {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ}} [الكهف:٥٨]، ولم يقل: ذو رحمة، وإن كان قال في آية أخرى: {{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} } [الرعد:٦]؛ لأن الانتقام ليس من أوصاف الله المطلقة، وليس من أسماء الله المنتقم، بل المنتقم لا يوصف الله به إلا مقيدا، فيقال: المنتقم من المجرمين، كما قال تعالى: {{إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ}} ، أما ذو انتقام فهي لا تعطي الانتقام المطلق؛ لأن انتقام نكرة فلا تعطي المعنى على الإطلاق، يعني: له انتقام، انتقام ممن؟ مقيد ولا مطلق؟ مقيد، انتقام من المجرمين، وبهذا نعرف أن الأسماء المسرودة في الحديث الذي رواه الترمذي لا تصح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لأنه ذكر فيها من أسماء الله المنتقم، وهذا لا يصح، وحذف من أسماء الله ما ثبتت به الأحاديث، فلم يذكر فيها مثل: الشافي، والرب، فالمهم أن الله تعالى لم يصف نفسه بالمنتقم إلا مقيدا.

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]

 

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 1
  • 0
  • 634

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً