بسم الله

منذ 2023-12-18

فإن مبحث البسملة من المباحث الجليلة والمشوقة والتي ينبغي لكافة المسلمين العلم بها كي لا يقعوا في خلافات من قبيل المعارك الوهمية التي تستفرغ الوقت والجهد بلا طائل

 

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

فإن مبحث البسملة من المباحث الجليلة والمشوقة والتي ينبغي لكافة المسلمين العلم بها كي لا يقعوا في خلافات من قبيل المعارك الوهمية التي تستفرغ الوقت والجهد بلا طائل، خاصة وأن علمائنا الإجلاء فصلوا هذه القضية أجمل وأحسن تفصيل ورتبوا الأدلة على أروع ما يكون الترتيب مما لا يدع مجال لتخاصم أو تشاجر، فالألفة بين القلوب بل والعقول مما ينبغي أن يلتزم به كل مسلم صادق خاصة وأن أدلة الشرع الغراء أبعد ما يكون عن التضاد البغيض والخلاف الغير مستساغ، كيف وهو شرع رب العالمين وهديه القويم الذي تنزه عن التنافر والتنازع بين أحكامه، ولذلك رأيت أن أجمع تفاصيل هذه المسألة الفقهية بما يؤلف القلوب ويبرهن على روعة الفقه الإسلامي ورسوخ قدم فقهائنا الربانيين

  

{{بِسْمِ}} باء الجر تأتي لمعان: للإلصاق {{وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ}} [المائدة:6]، والاستعانة [ذبحت بالسكين]، والقسم [بالله لقد أخذ]، والسبب، قال تعالى: {{فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ}} [النساء:160].. والباء في {{بسم الله}} للاستعانة، نحو كتبت بالقلم، وحذفت الألف من بسم هنا في الخط تخفيفاً لكثرة الاستعمال.

** والجار والمجرور متعلق بمحذوف؛ وهذا المحذوف يقَدَّر فعلاً متأخراً مناسباً؛ فإذا قلت: «باسم الله» وأنت تريد أن تأكل؛ تقدر الفعل: «باسم الله آكل».

- وقدرناه متأخراً لفائدتين:

الفائدة الأولى: التبرك بتقديم اسم الله عزّ وجل.

والفائدة الثانية: الحصر؛ لأن تأخير العامل يفيد الحصر، كأنك تقول: لا آكل باسم أحد متبركاً به، ومستعيناً به، إلا باسم الله عزّ وجلّ.

- وقدرناه مناسباً؛ لأنه أدلّ على المقصود.

{اللَّهِ} علم لا يطلق إلا على المعبود بحق، اسم الله رب العالمين لا يسمى به غيره؛ وهو أصل الأسماء؛ ولهذا تأتي الأسماء تابعة له.

{{الرَّحْمَنِ}} أي ذو الرحمة الواسعة؛ ولهذا جاء على وزن "فَعْلان" الذي يدل على السعة والكثرة.

{{الرَّحِيمِ} } ذو الرحمة بعباده المفيضها عليهم في الدنيا والآخرة، أي الموصل للرحمة من يشاء من عباده؛ ولهذا جاءت على وزن "فعيل" الدال على وقوع الفعل.

فهنا رحمة هي صفته. هذه دل عليها {الرحمن}؛ ورحمة هي فعله. أي إيصال الرحمة إلى المرحوم. دلّ عليها {الرحيم}.

** وقيل: الرحمن أكثر مبالغة، وكان القياس الترقي، كما تقول: عالم نحرير شجاع باسل، لكن أردف الرحمن الذي يتناول جلائل النعم وأصولها بالرحيم ليكون كالتتمة والرديف ليتناول ما دق منها ولطف.

** قال أبو علي الفارسي: الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة، يختص به الله، والرحيم إنما هو في جهة المؤمنين، كما قال تعالى: {{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً}} [الأحزاب:43]

وقال العزيزي: الرحمن بجميع خلقه في الأمطار، ونعم الحواس، والنعم العامة، الرحيم بالمؤمنين في الهداية لهم واللطف بهم.

وقال ثعلب: "الرحمن أمدح، والرحيم ألطف".

** والرحمة التي أثبتها الله لنفسه رحمة حقيقية دلّ عليها السمع، والعقل؛ أما السمع فهو ما جاء في الكتاب والسنّة من إثبات الرحمة لله عز وجل وهو كثير جداً؛ وأما العقل: فكل ما حصل من نعمة أو اندفع من نقمة فهو من آثار رحمة الله تعالى.

وقد أنكر قوم وصف الله تعالى بالرحمة الحقيقية، وحرّفوها إلى الإنعام، أو إرادة الإنعام، زعماً منهم أن العقل يحيل وصف الله بذلك؛ قالوا: "لأن الرحمة انعطاف ولين وخضوع ورقة؛ وهذا لا يليق بالله عزّ وجلّ"؛ والرد عليهم من وجهين:.

- الوجه الأول: منع أن يكون في الرحمة خضوع وانكسار ورقة؛ لأننا نجد من الملوك الأقوياء رحمة دون أن يكون منهم خضوع ورقة وانكسار.

- الوجه الثاني: أنه لو كان هذا من لوازم الرحمة ومقتضياتها فإنما هي رحمة المخلوق؛ أما رحمة الخالق سبحانه وتعالى فهي تليق بعظمته وجلاله وسلطانه؛ ولا تقتضي نقصاً بوجه من الوجوه.

** وفي البسملة من ضروب البلاغة نوعان:

1/ أحدهما: الحذف، وهو ما يتعلق به الباء في بسم، والحذف قيل لتخفيف اللفظ، وقال أبو القاسم السهيلي: وليس كما زعموا، ولكن في حذفه فائدة، وذلك أنه موطن ينبغي أن لا يقدم فيه سوى ذكر الله تعالى.

ومن الحذف أيضاً حذف الألف في {{بسم الله}} وفي {{الرحمن}} في الخط، وذلك لكثرة الاستعمال.

2/ النوع الثاني: التكرار في الوصف، ويكون إما لتعظيم الموصوف، أو للتأكيد، ليتقرر في النفس.

هل البسملة آية من الفاتحة؛ أم لا؟

** سورة الفاتحة سبع آيات باتفاق القراء والمفسرين، لكن الخلاف بين العلماء وقع في البسملة، فعند أهل المدينة لا تعد البسملة آية، وتعد {{أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} } آية، وعند أهل مكة وأهل الكوفة تعد البسملة آية وتعد {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} جزء آية، والحسن البصري عد البسملة آية وعد {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} آية.

** إذا فمنهم من يقول: إنها آية من الفاتحة، ويقرأ بها جهراً في الصلاة الجهرية، ويرى أنها لا تصح إلا بقراءة البسملة؛ لأنها من الفاتحة؛ ومنهم من يقول: إنها ليست من الفاتحة؛ ولكنها آية مستقلة من كتاب الله؛ وهذا القول هو الحق؛ ودليل هذا: النص، وسياق السورة.

** أما النص: فتحديد هذه الآيات السبع هو ما دل عليه حديث الصحيحين عن أبي هريرة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ،

فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حَمِدَنِي عَبْدِي،

وَإِذَا قَالَ: {{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي،

وَإِذَا قَالَ: {{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}} قَالَ مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي،

فَإِذَا قَالَ: {{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}} قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ،

فَإِذَا قَالَ: {{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}} قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ.

وهذا كالنص على أن البسملة ليست من الفاتحة؛ وروى البخاري في باب «القراءة خلف الإمام» عَنْ أَنَسٍ، -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ يَسْتَفْتِحُونَ الْقِرَاءَةَ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ".

وفي "صحيح مسلم عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبِي بَكْرٍ،  وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ: {{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} } الفاتحة/ 1

وفي صحيح مسلم أيضا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِـ {{الْحَمْد لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}} لَا يَذْكُرُونَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلَا فِي آخِرِهَا.

والمراد: "لا يجهرون"؛ كما ورد في المسند بسند صحيح عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: "صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، فَكَانُوا لَا يَجْهَرُونَ بِـ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}". وهي رواية ابن حبان وصححها الأرناؤوط. وفي رواية ابن خزيمة: "يُسِرُّونَ".

والتمييز بينها وبين الفاتحة في الجهر وعدمه يدل على أنها ليست منها.

** وأما من جهة السياق من حيث المعنى: فالفاتحة سبع آيات بالاتفاق؛ وإذا أردت أن توزع سبع الآية على موضوع السورة وجدت أن نصفها هو قوله تعالى: {{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}} وهي الآية التي قال الله فيها: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين"؛ لأن {{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}} : واحدة؛ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}: الثانية؛ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}: الثالثة؛ وكلها حق لله عزّ وجلّ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: الرابعة. يعني الوسَط؛ وهي قسمان: قسم منها حق لله؛ وقسم حق للعبد؛ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} للعبد؛ {{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}} للعبد؛ {{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} } للعبد.

فتكون ثلاث آيات لله عزّ وجل وهي الثلاث الأولى؛ وثلاث آيات للعبد . وهي الثلاث الأخيرة؛ وواحدة بين العبد وربِّه. وهي الرابعة الوسطى..

ثم من جهة السياق من حيث اللفظ، فإذا قلنا: إن البسملة آية من الفاتحة لزم أن تكون الآية السابعة طويلة على قدر آيتين؛ ومن المعلوم أن تقارب الآية في الطول والقصر هو الأصل..

فالصواب الذي لا شك فيه أن البسملة ليست من الفاتحة. كما أن البسملة ليست من بقية السور عدا سورة النمل.

** لكن كيف اختلف أهل العلم من السلف على أن البسملة آية من سورة الفاتحة، أو أنها ليست بآية؟ وهل هذا الخلاف معتبر؟ وكيف نسوِّغ الاختلاف في آية من القرآن الكريم الذي نقل إلينا بالتواتر، جمع عن جمع، وهكذا، على أنها آية، أو ليست بآية؟

والجواب: أن اختلاف العلماء في عد البسملة آية من القرآن أم لا، لا يدخل في هذا، لأن أئمة القراءات لم يختلفوا في قراءتها في أوائل السور، وقد اتفق الصحابة -رضي الله عنهم- على إثباتها في أوائل السور إلا سورة التوبة، وذلك في المصحف الذي كتبه عثمان بن عفان -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وبعث به إلى الأمصار .

وقد جعل بعض العلماء الاختلاف في عد البسملة آية من القرآن، كاختلاف أئمة القراءات في بعض الكلمات والحروف، فقد يثبت في بعض القراءات ما لا يثبت في غيرها.. قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-:

"اختلف العلماء في البسملة، هل هي آية من أول كل سورة، أو من الفاتحة فقط، أو ليست آية مطلقاً، أما قوله في سورة النمل: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فهي آية من القرآن إجماعاً .

وأما سورة «براءة»: فليست البسملة آية منها إجماعاً، واختُلف فيما سوى هذا، فذكر بعض أهل الأصول أن البسملة ليست من القرآن، وقال قوم: هي منه في الفاتحة فقط، وقيل: هي آية من أول كل سورة، وهو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى .

ومِن أحسن ما قيل في ذلك: الجمع بين الأقوال بأن البسملة في بعض القراءات -كقراءة ابن كثير- آية من القرآن، وفي بعض القراءات: ليست آية، ولا غرابة في هذا.

فقوله تعالى في سورة "الحديد" {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} لفظة (هُوَ) من القرآن في قراءة ابن كثير، وأبي عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وليست من القرآن في قراءة نافع، وابن عامر؛ لأنهما قرءا {فإن الله الغني الحميد}، وبعض المصاحف فيه لفظة (هُوَ)، وبعضها ليست فيه .

وقوله تعالى: {{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} } [البقرة:116]، فالواو من قوله (وقالوا) في هذه الآية من القرآن على قراءة السبعة غير ابن عامر، وهي في قراءة ابن عامر ليست من القرآن لأنه قرأ: {{قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} } بغير واو، وهي محذوفة في مصحف أهل الشام، وقس على هذا .

وبه تعرف أنه لا إشكال في كون البسملة آية في بعض الحروف دون بعض، وبذلك تتفق أقوال العلماء" أهـ

ويقول ابن عاشور: واختلفوا في قراءة البسملة في غير الشروع في قراءة سورة من أولها، أي في قراءة البسملة بين السورتين:

فورش عن نافع في أشهر الروايات عنه وابن عامر، وأبو عمرو، وحمزة، ويعقوب، وخلف، لا يبسملون بين السورتين وذلك يُعَلَّلُ بِأَنَّ التَّشَبُّهَ بِفِعْلِ كُتَّابِ الْمُصْحَفِ خَاصٌّ بالابتداء، وَبِحَمْلِهِمْ رَسْمَ البسملة في المصحف على أنه علامة على ابتداء السورة لا على الفصل، إذ لو كانت البسملة علامة على الفصل بين السورة والتي تليها لما كتبت في أول سورة الفاتحة، فكان صنيعهم وجيها لأنهم جمعوا بين ما رووه عن سلفهم وبين دليل قصد التيمن، ودليل رأيهم أن البسملة ليست آية من أول كل سورة.

وقالون عن نافع وابن كثير وعاصم والكسائي وأبو جعفر يبسملون بين السورتين سوى ما بين الأنفال وبراءة، وعدوه من سنة القراءة، وليس حَظُّهُمْ في ذلك إلا اتباع سلفهم، إذ ليس جميعهم من أهل الاجتهاد، وَلَعَلَّهُمْ طَرَدُوا قَصْدَ التَّيَمُّنِ بِمُشَابَهَةِ كُتَّابِ المصحف في الإشعار بابتداء السورة والإشعار بانتهاء التي قبلها.

وفي هذا ما يدل على أن اختلاف مذاهب القراء في قراءة البسملة في مواضع من القرآن ابتداء ووصلا كما تقدم لا أثر له في الاختلاف في حكم قراءتها في الصلاة، فإن قراءتها في الصلاة تجري على إحكام النظر في الأدلة وليست مذاهب القراء بمعدودة من أدلة الفقه، وإنما قراءاتهم روايات وسنة متبعة في قراءة القرآن دون استناد إلى اعتبار أحكام رواية القرآن من تواتر ودونه، ولا إلى وجوب واستحباب وتخيير، فالقارئ يقرأ كما روى عن معلميه ولا ينظر في حكم ما يقرأه من لزوم كونه كما قرأ أو عدم اللزوم، تجري أعمالهم في صلاتهم على نَزَعَاتِهِمْ في الفقه من اجتهاد وتقليد، ويوضح غلط من ظن أن خلاف الفقهاء في إثبات البسملة وعدمه مبني على خلاف القراء.

وقال أهل العلم: وقد اختلف في عدها آية من آيات الفاتحة وفي عدمه كُـتّابُ المصاحف مع اتفاقهم جميعًا على كتابتها، وعلى أن الفاتحة سبع آيات، فهي آية من الفاتحة في المصحف المكي والمصحف الكوفي، وليست آية مستقلة في المصحف المدني والشامي والبصري.

 وقد قال ابن العربي المالكي: من قال إنها ليست بآية في أوائل السور لم يكفر لأنه موضع خلاف، ومن قال إنها ليست من القرآن كفر لوجودها في آية النمل.

وعلى هذا؛ فمن أخذ بالعد المدني لا يعد {{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}} آية من الفاتحة ولا من غيرها، ومن أخذ بالعد الكوفي عدها آية من الفاتحة دون غيرها، ونجد الإشارة إلى هذا التفصيل في المصاحف المطبوعة برواية حفص عن عاصم فهي تعد البسملة آية من الفاتحة، وهذه المصاحف هي المنتشرة في المشرق. أما المصاحف المكتوبة برواية قالون وورش عن نافع فإنها لا تعد البسملة آية من الفاتحة، ومصاحف قراءة نافع أكثر انتشار في بلاد المغرب. مع اتفاقهم على كتابتها في بداية كل سورة -كما أشرنا- ما عدا براءة، واتفاقهم على أن الفاتحة سبع آيات، فمن عد البسملة آية لم يعد: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} آية، والذين لا يعدون البسملة آية يعدون: {{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}} آية، وبعدها: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ...}

والحاصل أن الذي جعلهم يحسبون البسملة آية من بداية الفاتحة دون غيرها هو اتباعهم للعد الكوفي الذي طبعت عليه المصاحف التي بين أيدينا، وهو يوافق العد المكي في عدها آية من الفاتحة. وعدد الآيات القرآنية توقيفي يعتمد فيه على الرواية والأخذ من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه الذين أقرأهم القرآن.

** أما الفقهاء فمذهب المالكية، والمشهور عند الحنفية، والأصح عند الحنابلة: "أن البسملة ليست آية من الفاتحة ومن كل سورة، وأنها آية واحدة من القرآن كله، أنزلت للفصل بين السور، وذكرت في أول الفاتحة .

وذهب الشافعية: إلى أن البسملة آية كاملة من الفاتحة، ومن كل سورة.

قال الإمام النووي رحمه الله في «المجموع»: أما حكم المسألة فمذهبنا أن {{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}} آية كاملة من أول الفاتحة بلا خلاف، وليست في أول براءة بإجماع المسلمين، وأما باقي السور غير الفاتحة وبراءة، ففي البسملة في أول كل سورة منها ثلاثة أقوال حكاها الخراسانيون أصحها وأشهرها وهو الصواب أو الأصوب أنها آية كاملة.

وقال أيضاً: ولا خلاف عندنا أنها تجب قراءتها في أول الفاتحة، ولا تصح الصلاة إلا بها لأنها كباقي الفاتحة. وهذا هو الراجح.

وقال أيضا: مذهبنا أن البسملة آية من أول الفاتحة بلا خلاف، فكذلك هي آية كاملة من أول كل سورة غير براءة على الصحيح في مذهبنا، وبهذا قال خلائق لا يحصون من السلف. قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر: هذا قول ابن عباس وابن الزبير وطاووس وعطاء ومكحول وابن المنذر وطائفة. واحتج أصحابنا بأن الصحابة -رضي الله عنهم- أجمعوا على إثباتها في المصحف في أوائل السور جميعاً سوى براءة بخط المصحف بخلاف الأعشار وتراجم السور، فإن العادة كتابتها بحمرة ونحوها، فلو لم تكن قرآناً لما استجازوا إثباتها بخط المصحف من غير تمييز، لأن ذلك يحمل على اعتقاد أنها قرآن فيكونون مغررين بالمسلمين، وحاملين لهم على اعتقاد ما ليس بقرآن، فهذا مما لا يجوز اعتقاده في الصحابة -رضي الله عنهم-. قال أصحابنا هذا أقوى أدلتنا في إثباتها. أهـ

** وترتب على هذا اختلافهم في حكم الجهر بالبسملة في الصلاة الجهرية للإمام، وهو على التفصيل الآتي:

1/ ذهب الحنفية والحنابلة إلى أنه تسن قراءة البسملة سرًّا، في الصلاة السرية والجهرية .قال الترمذي: وعليه العمل عند أكثر أهل العلم، من أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن بعدهم من التابعين، ومنهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي. وحكاه ابن المنذر عن ابن مسعود وعمار بن ياسر وابن الزبير، والحكم، وحماد، والأوزاعي، والثوري، وابن المبارك .

قال أهل العلم: ذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد -في رواية ذكر ابن قدامة في المغني أنها الرواية المنصورة عند أصحابه- إلى أن البسملة ليست آية مستقلة في الفاتحة. ومن أوضح ما احتجوا به ما أخرجه الإمام مالك في الموطأ، والإمام مسلم في الصحيح، حديث: «(قَسَمْتُ الصلاَةَ بَـيْنِي وَبَـيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ..)» .. محل الشاهد أنه بدأ الفاتحة بالحمد لله رب العالمين، ولم يذكر البسملة. ويضاف إلى هذا ما استفاض من عدم جهر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وخلفائه بها في الصلاة، كما في حديث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. 

2/ ذهب الشافعية إلى أن السنة الجهر بالبسملة في الصلاة الجهرية، في الفاتحة وفي السورة بعدها. واستدلوا بما روى ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جهر بـ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}". إلا أنه حديث لا يصح، فقد أخرجه الترمذي وقال: "وليس إسناده بذاك" .

وقالوا: لأنها تقرأ على أنها آية من القرآن، بدليل أنها تقرأ بعد التعوذ؛ فكان سنتها الجهر كسائر الفاتحة.

ذكر ابن قدامة في المغني، والنووي في المجموع، وابن حزم في المحلى: أن الشافعي وابن المبارك وأحمد في رواية عنه جعلوها آية مستقلة، ولا تصح الصلاة دونها. ورجح هذا المذهب النووي وابن حزم. ومن أوضح حجج هذا المذهب حديث الدارقطني والبيهقي: عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ- «قَالَ رَسُولُ اللَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِذَا قَرَأْتُمُ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاقْرَءُوا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} إِنَّهَا أُمُّ الْقُرْآنِ وَأُمُّ الْكِتَابِ وَالسَّبْعُ الْمَثَانِى وَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} إِحْدَاهَا)» قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ: ثُمَّ لَقِيتُ نُوحًا فَحَدَّثَنِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ .. [والحديث صحيح، كما قال الألباني في صحيح الجامع، وصحح ابن حجر كونه موقوفًا] .

** ومن هنا يعلم أن مسألة البسملة في الفاتحة وما يترتب على تركها من المسائل الخلافية التي بحث فيها العلماء قديمًا ولم يصلوا فيها إلى ما يقطع النزاع ويرفع الخلاف. وعليه فمن قلد من لم ير أنها آية من الفاتحة فلا يسجد لتركها لا في الفاتحة ولا في السورة بالأولى، ومن قلد مخالفيه أعاد الصلاة إذا لم يتذكر أنه تركها، إلا بعد فوات التدارك، ولا يكفي السجود عنها. والله أعلم.

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]

 

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 2
  • 0
  • 344

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً