أصداء الانتخابات.. دروس مستفادة

منذ 2011-12-13

كتبه: علاء الدين عبد الهادي


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد:
فقد كانت ثرية ورائعة تلك التجربة الفريدة التي مر بها شعبنا الحبيب، يومان متتاليان من المرحلة الأولى لانتخابات مجلس الشعب، والتي شهدت سلاسة وكثافة غير مسبوقة، ولأول مرة يشعر المصريون أن لهم وطنًا ينتمون إليه صدقًا، وأن مستقبلهم يتوقف -بعد توفيق الله- على اختياراتهم هم، وليس اختيارات (البشوات الكبار) أصحاب النفوذ! لأول مرة في حياة أكثرهم يستمتعون بالعملية ذاتها بغض النظر عن النتائج، ويشعرون أن صوتهم (أمانة) بالمعنى الحقيقي، وليس مجرد شعار يتردد، ولا كلام جرائد ليس له رصيد من الواقع.

وخلال هذه التجربة الرائعة، وقبل أن ننشغل بالأحداث اللاهثة المتلاحقة، أحببت أن أدون بعض الدروس قد استفدتها كما استفادها معي الكثير من المصريين.

ومِن هذه الدروس: حكمة الشعب تهزم (حزب النخبة).

أول ما يلفت الانتباه هو ما رأيناه من (الكتلة الصامتة) حينما أتيح لهم فرصة الاختيار الحر، فقد خرجوا شيبًا وشبانًا، رجالاً ونساءً، مسيسين وغير مسيسين، خرجوا جميعًا يحثهم حب الخير لأوطانهم، يريدون لمصر الاستقرار والأمان والعمران، وأن تكون في مكانها الصحيح لتقود الأمم.

لقد خرج هؤلاء الأبطال المخلصون بعد أن آذاهم كثيرًا ما يسمعونه ممن يُسمون أنفسهم: (بـالنخبة) والذين ما برحوا ينظرون إليهم من برجهم العاجي، ويطلقون عليهم لقب: (حزب الكنبة!) كناية عن الدعة والسلبية، والاكتفاء بالمشاهدة، هذه النخبة -التي لم ينتخبها أحد- يصدعون رؤوسنا كل يوم بما تجود به قرائحهم أول النهار، ويملأ جيوبهم آخره، لا يفتئون يخرجون علينا كل ليلة يتقافزون من قناة إلى قناة، وبرنامج إلى برنامج، حتى إن البعض منهم قد أراح نفسه، وبدلاً من أن يكون ضيفًا دائمًا على البرامج المختلفة متنقلاً بينها، إذا هم ينشئون لأنفسهم قنوات أو يحتلون برامج خاصة بهم يسرحون فيها ويمرحون، ويعيثون فيها الفساد ويشعلون الفتن، ويحترفون تشويه الحسن، وتزيين القبيح.

ها هو (حزب الكنبة) يثبت أنه كان وما يزال (حزب الحكماء) وها هم المكتفون بالمشاهدة -على حد زعم المتغطرسين- يعلنون إقصاء (حزب النخبة) الفاسدة، وأصحابهم من الحواة الذين يُطلق عليهم: إعلاميون، ويقولون لهم: "لا تتكلموا بألسنتنا، قد سقطتم من أعيننا، وكفرنا باختياراتكم!" وبالطبع لم يكن من الغريب أنك ترى (حزب النخبة) الفاشلة يمتدح (حزب الكنبة) في أول النهار ويتزلف له، ثم يكفر به آخره -كما رأينا في استفتاء الدستور- ولم يكن من الغريب أيضًا حينما ظهرت مؤشرات أولية لتقدم الإسلاميين أن تجدهم يتكلمون عن (شراء الأصوات) بواسطة الأحزاب التي تتاجر بالدين، وإذا بهذا الشعب العظيم يتحول إلى شعب جاهل ومتخلف، ولا يعرف مصلحته!

بشارات من الشارع المصري:
كان ولا يزال أبناء الصحوة الإسلامية من الاتجاهات الإسلامية كلها يراهنون على نقاء الشارع المصري، وطيب معدنه وذكائه الفطري الذي حار فيه الحائرون، لذا لم يكن غريبًا أن يعطي الشارع المصري صوته بكثافة للإسلاميين، كما رأينا في المرحلة الأولى من انتخابات البرلمان، ومِن قبله كيف تجاوب الشارع معهم في استفتاء الدستور.

ومخطئ مَن يظن أن هؤلاء الإسلاميين -الذين أعلن الشارع عن رغبته فيهم وثقته بهم- قد بنوا كل هذه الشعبية في أشهر قليلة تمثـِّل عمر تأسيس الأحزاب بعد الثورة، بل ذلك راجع إلى أن هؤلاء الإسلاميين من أبناء الصحوة قد عاشوا بين الناس عمرهم كله، وذاقوا معهم الأمرّين مِن جرَّاء فساد النظام السابق، وشكلوا قديمًا في العقل الجمعي المصري صورة للحق والخير والواجب، وحموا الهوية الحقة من الطمس، وقاموا بما يشبه (ثورة صامتة) على الفساد وتغييب الشرع عن حياة الناس تقاوم التغريب والعلمنة، واستشراء الفساد.

في ذلك الوقت كان أكثر هؤلاء المتنورين من (النخبة المثقفة) يدورون في كنف (النظام البائد) ويسبحون بحمده، بينما كان الإسلاميون يذبحون على مرأى ومسمع من الجميع، ثم بعد الثورة يقفز هؤلاء إلى القنوات الإعلامية، ليحتلوها ويشوهوا صورة الإسلاميين عامة، والسلفيين خاصة.

والعجب..! أنك لا تكاد تلاحظ تأثرًا كبيرًا في الشارع المصري بترهات الإعلام، رغم كثافة الرسائل السلبية الموجهة ضد الإسلاميين! والتركيز الإعلامي -بل التربص- بالساحة الإسلامية تشويهًا وتزييفًا، وترهيبًا للرأي العام منهم، (فمن قطع الآذان لاستغفال الناس لإشعال الفتن الطائفية، واستخدام الدين في الدعاية الانتخابية، إلى آخر هذه القائمة) التي ملها الناس، ولم يعد يعبأ الإسلاميون أنفسهم بها، فقد صارت تلك (الحكايات المملة) بضاعة رخيصة، ومركبًا سهلاً لكل إعلامي متسلق يريد الشهرة، واحتلال منزلة لائقة في (مافيا الإعلام)!

إن البشارات من الشارع المصري لا تنقطع، وإنه -وبغض النظر عن نتائج الانتخابات- يتأكد يومًا بعد يوم أن الدعوة الإسلامية لها رصيد كبير في قلوب الناس، وأن فطرتهم تنسجم تمامًا مع الخطاب الإسلامي، لذا فالفتح الأكبر ليس في مقاعد البرلمان، ولا الحقائب الوزارية، ولكن في التخلية بين الدعوة وبين الناس، لذا فقد سمى الله صلح الحديبية فتحًا مبينًا، ونصرا عزيزًا، إذ بمقتضاه حصل الأمن، وترك الناس القتال، فزاد احتكاك الناس بالصحابة -رضي الله عنهم- واتسعت دائرة الدعوة لدين الله حتى بلغت الآفاق، وتمكن مَن يريد الوقوف على حقيقة الدعوة من معرفتها والاستجابة لندائها العذب، لذا قال الله تعالى في هذا الأمر: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا . لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا . وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح: 1- 3]. فأبشروا أيها الدعاة إلى الله بنصر من الله وفتح قريب.

ربانية الدعوة:
ولكن هذه الدعوة الإسلامية دعوة ربانية في الأساس، وإنما يتشرف الدعاة بحملها، ولن يكتب لدعوتهم الفتح والنصر والتمكين إلا وفق الشروط التي بيَّنها الله في كتابه، ووفق ما علَّمنا قدوتنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهي لن تنتشر إلا بالإيمان العميق والعقيدة الصافية، والسلوك الحسن بيْن أتباعها وأصحابها ابتداءً، وبالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].

فلا يصح أبدًا أن يصدر من بعض الاتجاهات خداع أو غش أو كذب، أو تزوير أو تدليس.
ولا يصح أبدًا للبعض أن يكون انتماؤه للحزب أو الجماعة فوق مصلحة الدعوة الإسلامية، والأخوة الإيمانية.
ولا يصح أبدًا للبعض أن يتخذ (مصلحة الدعوة) -كما يتوهمها هو- إلهًا يعبد من دون الله، أو ذريعة لارتكاب ما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو سبيلاً للفرقة والاختلاف، ولا نتصور أن يهادن مسلم أو يتخلى عن شيء من دينه وعقيدته ومراقبته لله خالقه رغبة في مكسب، أو طلبًا لمدح أحد أو هربًا من ذمه: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس: 109].

رسائل سريعة إلى إخواني:
- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا» (رواه أحمد والترمذي، وابن ماجه، وصححه الألباني). فعلينا جميعًا بذل ما نستطيع من أسباب، معتمدين على الله وحده حتى يمن علينا بما لم نكن نحتسب: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23].

- قال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} [النمل: 65]. ومن عجائب تدبير الله تعالى: أن كثيرًا ممن كانوا قبل عام من الآن يتحسبون لبلاء عظيم، يسألون الله العافية منه، أرى بعضهم الآن وقد منَّ الله عليه بعلو الشأن في الدين والدنيا، في الوقت الذي أخزى الله من كان يكيد لهم مكر الليل والنهار.

- عظـَّم الله ذكر رجل جاء من أقصى المدينة يسعى في نصرة الحق، فابذل ما تستطيع واجتهد فيه وأتقنه، ولا تحقرن من المعروف شيئًا، قال تعالى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129]. وقد قضى الله وقدَّر أنكم في هذه المرحلة الفارقة من تاريخ الأمة تكتبون التاريخ وتشاركون في صنعه، فأروا الله من أنفسكم خيرًا.

- العُجب آفة تصيب القلب بالموت، وتصيب السعي بالحبوط، وتصيب الناس بالنفور: «والْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» (رواه مسلم). فاحذروه، البطر: عدم قبول الحق، والغمط: الاحتقار والاستهانة.
- الطالب المجتهد يلوم نفسه على ما ضيع من فرص كانت بمتناول يديه، ولا ينظر بعين الرضا إلى ما حقق، بل يقول: "ولم أرى في عيـوب الناس عيبًا كـنقـص القـادريـن على التمام".
- ديننا دين الرحمة فأظهروها للناس جميعًا -حتى مخالفيكم- واغرسوها غرسًا في أفئدتكم، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]. وتواضعوا لله تعالى يعلِ الله شأنكم.

- الطريق لا يزال طويلاً فأكملوا واصبروا: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلا تَعْجَزْ» (رواه مسلم). ولا نتصور من أي فرد من الدعاة السلفيين، والشباب المبارك من العاملين على الأرض أن تخمد حركتهم الدءوب بعد هذا الجهد والنشاط، ولا أن يخلدوا إلى الراحة والدعة بعد أن بلغوا ما بلغوا في احتكاكهم الفعال مع المجتمع بجميع أطيافه وطبقاته: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل: 92].

- البعض الآن يخاطب نفسه قائلاً: "ويح هؤلاء: نافسونا في الشوط الأول من المباراة الأولى ولم نكن نتوقع ذلك منهم" واعلموا كذلك أن البعض سيعد لكم مكر الليل والنهار، فكونوا كما قال عمر -رضي الله عنه-: "لست بالخب ولا الخب يخدعني". الخب: المخادع المكار.

- في مقابل المكر والكيد قل: {حَسْبِي اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129]. {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36].

- النساء شقائق الرجال، ولهن حظهن -إن أردن وصدقت النية- في بناء الأمة.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المصدر: علاء الدين عبد الهادي
  • 1
  • 0
  • 1,628

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً